Al Jazirah NewsPaper Friday  23/05/2008 G Issue 13021
الجمعة 18 جمادى الأول 1429   العدد  13021
بعد نكبة ضياع الأرض - كيف نحافظ على الوطن؟
د. إبراهيم أبراش

في ذكرى ما اصطلح على تسميتها بالنكبة تنتابنا مشاعر متناقضة، إحساس بالحزن والألم لما آلت إليه القضية الوطنية من ضياع للأرض وتشتيت للشعب، وغضب ونقمة على الذين كانوا السبب من عرب وعجم، وفي الوقت نفسه إحساس بالفخر والعزة لأن شعبنا على الرغم من انقضاء ستين عاماً من النكبة ما زال ثابتاً وصابراً ولم يستسلم ويرفع الرايات البيضاء، سواء صمود أهلنا داخل الوطن السليب داخل الخط الأخضر وخارجه أو أهلنا في الغربة والشتات. هذا الصمود والصبر حتى وإن كان على المكاره هو الذي يمنحنا الأمل بالمستقبل، ويجعل الاحتفالات الإسرائيلية بالنصر وبما يسمونه عيد استقلالهم احتفالاً وهمياً يسوده القلق والخوف وتستنفر فيه كل الأجهزة الأمنية والجيش حتى يمر بسلام لأن إسرائيل تدرك أنه نصر غير مكتمل ما دام أصحاب الحق يعيشون بين ظهرانيهم وفي أرضهم المحتلة وما دام الصغار لم ينسوا حتى وإن مات الكبار.

عندما نقول ما اصطلح على تسميتها بالنكبة لوصف ما جرى في مايو 1948م، لأن مصطلح النكبة لا يعبر عن واقع ما جرى - كما هو الأمر بالنسبة لوصف ما جرى في حزيران عام 1967 بالنكسة - ما جرى هزيمة بكل ما تعنيه الكلمة، هزيمة عسكرية للجيوش العربية التي ذهبت تحت ادعاء محاربة العصابات الصهيونية وهزمتها هذه الأخيرة شر هزيمة، حيث إن الهروب من المعركة أو عدم قتال الجيش وهو في ساحة المعركة هو هزيمة إن لم تكن عسكرية فسياسية. ولأن الأنظمة العربية لا تريد أن تعترف بمسؤوليتها عما جرى فتسمي ما جرى بالنكبة، بمعنى أنها نتيجة القضاء والقدر، ولا راد لقضاء الله! وبالتالي لا تتحمل المسؤولية عنه. وللأسف هذا هو ديدن الأنظمة العربية بل العقل السياسي العربي في تفسير وتشخيص الحروب والمواجهات التي يخوضونها، فمفاهيم النصر والهزيمة دائماً ملتبسة، والمسؤولية غير واضحة أو تلقى على العدو الخارجي. الجيوش العربية لا تنهزم لأن الاعتراف بالهزيمة يعني المحاسبة والقادة العرب لا يُحاسبون.

لا نريد أن ننكأ الجراح، ولكن الأنظمة العربية هي التي أضاعت نصف فلسطين في حرب 48، وأضاعت بقيتها في حرب 67، وبالتالي فمسؤولية أخلاقية وقانونية وقومية تلقى على عاتق هذه الأنظمة. ولا يكفي أن تصف الأنظمة ما جرى بالنكبة أو النكسة أو التآمر الخارجي لتسقط عن نفسها المسؤولية. وعندما نطالبها اليوم بالاعتراف بالمسؤولية فلا نريد أن تعيد لنا ما ضيّعت، بل على الأقل أن توقف تدخلها السلبي في شؤوننا الوطنية، وتمكن شعبنا من مقومات الصمود والمواجهة الوطنية، وتكف عن الادعاء بأنها حاربت وضحت وخسرت المال والجنود من أجلنا، فهي لم تحارب إلا دفاعاً عن عروشها وكراسي الحكم أو دفاعاً عن بلدانها. ولا نريد أن نكشف الوثائق التي تؤكد أن بعض الجيوش العربية تآمرت على الفلسطينيين بشكل فاضح في حرب 48، مع كامل التقدير والاحترام للجنود والمتطوعين العرب الذين قاتلوا واستشهدوا بنية وحس قومي وديني صادق.

إن كنا ننتقد الأنظمة العربية على تقاعسها ويمكن أن ننتقد أيضاً القوى والأنظمة الإسلامية، وبطبيعة الحال القوى الدولية، فهذا لا يعني إسقاط المسؤولية الذاتية، مسؤوليتنا كفلسطينيين عما جرى قبل عام 48، حيث تصارعت القيادات السياسية التقليدية على المناصب واتبعدت عن الجماهير ووضعت بعض القيادات ثقتها بالأنظمة العربية وبعضها ببريطانيا، أو نسقط المسؤولية عما جرى بعد 48 حيث عشنا ولم نزل أزمة مشروع وطني وأزمة قيادة ونظام سياسي، وبعض القيادات تعيد أخطاء الماضي بالتخلي عن اسقتلالية القرار الوطني والارتهان بمحاور خارجية.

تحميل المسؤولية للآخرين يأتي من باب العتب او المحاسبة عما يفترض أن يكون. والشيء المفترض او ما يجب أن يكون هو الإحساس بالمسؤولية القومية عند الأنظمة والجماهير العربية والإحساس بالمسؤولية الدينية عند الأنظمة والحركات والجماهير الإسلامية. ولكن إن غاب البعد القومي والديني عن الأنظمة والحركات العربية والإسلامية فلا شيء يلزمهم بالتحرك لنصرة قضيتنا أو قد يفهموا هذين البعدين بطريقة مخالفة لفهمنا لهما ما داموا يشعرون بأن إسرائيل لا تشكل خطراً داهماً وراهناً عليهم وأن المصلحة الوطنية أو الإيدولوجيا القومية او الدينية -كما يفهمها كل منهم- أهم وأسبق بالرعاية والاهتمام من المصلحة الفلسطينية! ألم يقل القوميون بأن (الوحدة طريق التحرير)؟ وألم تقل بعض الجامعات الإسلامية اليوم إن (العدو القريب أولى بالجهاد من العدو البعيد)؟ وألم تر بعض الجماعات الإسلامية بأن كابول وكندهار والشيشان واليمن أحق بالجهاد من القدس وأرسلت عناصرها للقتال هناك؟ ..إلخ.

اليوم وفي ظل الوضع العربي والإسلامي والدولي الذي لا يترك لنا كثيراً من الأمل بالمراهنة عليه، علينا أن نؤكد بأن (ما حك جلدك مثل ظفرك). نعم نحن مع البعدين العربي والإسلامي لفلسطين، ولكن لا أحد من العرب والمسلمين في ظل الواقع الراهن مستعد للقتال من أجل فلسطين. وقد أصبح مزيد من الأنظمة والنخب السياسية العربية مقتنعة بأن إسرائيل لا تشكل خطراً وجودياً عليها، وبالتالي لا داعي لمعاداتها. وفي واقع الحال فإن الخطر والتهديد المباشر واقع على الشعب الفلسطيني، على وجوده الوطني والثقافي والهوياتي، نقيض وجود إسرائيل كياناً وعقيدة وهوية هو الشعب الفلسطيني وليس الأمة العربية أو الأمة الإسلامية، فهذه إيديولوجيا وليست واقعاً منظماً ومهيكلاً اليوم في مشروع واحد موحد.

إن كانت إسرائيل لم تسقط من حساباتها الخطر القومي والإسلامي كاحتمال مستقبلي وتعمل بجد بالتحالف مع واشنطن على تحييد هذا الخطر أو وأده في المهد، إلا أنها تدرك أن نقيضها الراهن والمستقبلي هو الشعب الفلسطيني بهويته وثقافته ووجوده في أرضه. الخطر على المشروع الصهيوني هو المشروع الوطني الذي وضعت أسسه حركة فتح ومنظمة التحرير، مشروع الدولة والهوية والثقافة الوطنية، وليس المشروع القومي ولا المشروع الإسلامي. فهذان المشروعان قد يكونان مساعدين للمشروع الوطني، ولا يمكن أن يحلا محله، وبالتالي فإن من يحمل المشروع الوطني ويعبر عنه هو المؤتمن على القضية الوطنية. ومن هنا نلاحظ أن المؤامرة كانت وما زالت على منظمة التحرير وحركة فتح تحديداً لأنها حاملة فكرة المشروع الوطني نقيض المشروع الصهيوني.

هذه ليست مناسبة للعويل والبكاء بل ذكرى حدث ما زال حاضراً فينا، ذكرى تتطلب وقفة مراجعة ومحاسبة للأحداث الجسام التي مرت بها قضيتنا الوطنية، وقفة تستدعي من النخبة السياسية امتلاك الشجاعة الأدبية والأخلاقية لممارسة النقد الذاتي، مراجعة وتقييماً لما جرى في الأردن عام 1970م، ومراجعة للوجود في لبنان، وطبيعة العلاقة بين الفلسطينيين واللبنانيين وخصوصاً أن الأحداث بلبنان اليوم قد تجر بعض القوى اللبنانية لتوظيف الوجود الفلسطيني في معركتها. وقفة لتقييم مسلسل التسوية والنتائج المترتبة على وجود السلطة. وقفة لتقييم انتفاضة الأقصى، تقييم سبع سنوات من الموت والدمار وعبثية السلاح والصواريخ والصراع على السلطة. تقييم لما جرى في غزة وآفاق الفصل ما بين الضفة وغزة إلخ. إن كنا لا نستطيع أن نحاسب الأنظمة والحركات العربية والإسلامية فيجب أن نملك القدرة على محاسبة نخبتنا السياسية أو على الأقل أن نجردها من وهم الشرعية التي تدعيها لنفسها، سواء كانت شرعية نضالية تاريخية أو شرعية ديمقراطية أو شرعية دينية.ما جرى ويجري منذ انقلاب حركة حماس على المشروع الوطني جرد كل القيادات من شرعيتها، ولم تعد اليوم شرعية لأي حكومة إن لم تكن حكومة المشروع الوطني، حكومة كل الشعب وكل الوطن. فالخوف اليوم لم يعد على أراضي 48 بل على الضفة والقدس وعلى الوطن كفكرة وهوية وثقافة، وهنا تكون مسؤولية النخب السياسية أكبر وأخطر. الأرض قد تضيع بالحرب ويمكن استردادها بالحرب أو بتسوية، ولكن إن ضاع الوطن كهوية وانتماء من قلوب الفلسطينيين فلا مجال لاستعادته أو استعادة الأرض.



ibrahem_ibrach@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد