Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/06/2008 G Issue 13034
الخميس 01 جمادىالآخرة 1429   العدد  13034
اتصل نصل دكتوراه التوصيل السريع
فواز بن عبدالعزيز اللعبون

بين عصر العولمة وعصر التسليع فوارق يسيرة، ففي زمن العولمة تستطيع باتصال واحد أن تتناول البيتزا الإيطالية في منزلك قبل أن تهم بغسل يديك، وفي زمن التسليع تستطيع الحصول على شهادة الدكتوراه

بطريقة مشابهة قبل أن تحدد التخصص الدقيق، فضلاً عن أن تستوعب مضمونه.

في عصر العولمة اختصار للوقت والمسافة، فقبل هذا العصر كان صاحب الوليمة مثلاً يضطر إلى الاستعداد المسبق لها بأيام، وكان عليه أن يذهب للأسواق بمختلف أنواعها؛ ليوفر مستلزمات وليمته، والآن أصبح بإمكانه أن يوفر على نفسه كل ذلك باتصال هاتفي مختصر، وهو في منتهى الاسترخاء يمتع ناظريه بمتابعة قناته المفضلة، وبعد دقائق يجد ما لذ وطالب من الطعام والشراب وافراً متنوعاً على مائدته.

أما عصر التسليع فيختزل العقل والجهد، وينزع من النفوس الإرادة، ومن ثم يسهم في تأزيمها، ليزيدها تعلقاً بالمظاهر والقشور، ففي هذا العصر كل شيء متاح بثمن، ولذا لم يعد مستغرباً أن يبذل أحدهم الأموال الطائلة ليتباهى بين أقرانه برقم هاتف مميز، أو أن يثقل كاهله بالديون ليزين مؤخرة مركبته بلوحة معدنية متناسقة الأرقام والحروف.

ومما لا شك فيه أن هذين الاثنين (صاحب الرقم المميز وصاحب اللوحة المميزة) بذلا الأموال ليلفتا أنظار الناس إليهما، بمعنى أنهما يريدان أن يقولا للآخرين: نحن مهمان، ومن الشخصيات المرموقة، ولسنا من دهماء الناس وعامتهم، فاحترمونا رجاء، وإلا..

إذن هما يفقدان شيئا، وبدلاً من أن يبذلا الجهد في تحصيله بذلا المال، وتبدو مشكلة هذين الاثنين يسيرة نوعاً ما؛ إذ إن أكثر عيناتهما من فئات المراهقين الذين ما يلبث معظمهم أن يعود إلى رشده حين يبرز ضرس العقل في أقاصي فكيه.

ولكن ما الذي يريده رواد جامعات الشقق المفروشة التي تبيع الشهادات؟ ومن أي الفئات هم؟ وما أزمتهم؟ وما الحل معهم ومع مانحيهم المحتالين؟

إن متوسط ما يدفعه رواد الشقق لنيل الماجستير والدكتوراه يقارب الستين ألف ريال، وهو مبلغ معظم باذليه من الكادحين الذين يُمضون آخر الشهر في تقشف وزهد، ويبدو من عينات الحاصلين على تلك الشهادات أنهم من عاشقي البروز والظهور، فتجدهم يُصَدِّرون أسماءهم بألقابهم الزائفة في مناسبة ودون مناسبة، حتى إن بعضهم قد يهجر أقاربه وأصحابه إن لم يبجلوا سعادته، ويصدِّروه في مجالسهم، وينادوه بلقبه الزائف بين الحين والآخر.

وتجد من شغف أولئك بحرف الدال ما يضحك الثواكل والأرامل؛ فهم لا يَخرجون إلا وفي جيوبهم الجانبية والعلوية عشرات (الكروت) الشخصية التي يوزعونها بسخاء غير معهود على من يعي ومن لا يعي، وثمة من يوزعها على عماته وخالاته كأنهن يجهلن من هو، كما يوزعها بحجة التعارف على حضرة البقال، وجناب الفوال، ولا يتحرج بعضهم الآخر من إبرازها لرجل الأمن قبل إثباته الشخصي.

ويزداد إيمانك بتأزمهم حين يستضيفك أحد أولئك في منزله العامر بالإطارات والبراويز، لتجد في مدخل المنزل مجسَّماً زجاجياً مملوءاً بأنواع الدروع والكؤوس التي يباع بعضها في محلات (كل شيء بريالين) وأشباهها، كما سترى على جدران مجلسه أصناف الشهادات الملونة؛ ابتداءً بشهادتي الماجستير والدكتوراه الزائفتين، ومروراً بشهادات التهاني الأسرية بعدد أبنائه وبناته، وشهادات أخرى متنوعة تشهد له بحضور دورات عجيبة في إطلاق العملاق، وتفجير الطاقات، وتحقيق المستحيل، وإجادة كل لغات العالم، وإتقان جميع مهارات الحاسوب، وقد تجد من بينها شهادة شكر من إمام مسجد الحي يشكره فيها على شراء سخان لدورة المياه، وبجوارها شهادة ضمان السخان لمدة ثلاث سنوات، ولو دققت النظر في مجموع شهاداته لرأيت شهادتي الميلاد والتطعيم مدسوستين بينها، مع أنك إن قارنتهما بعين الفاحص الخبير بغيرهما لتيقنت أنهما أصدق شهاداته، على الأقل عليهما أختام حكومية رسمية معترف بها، وإن كنت في الوقت نفسه ستعتب على وزارة الصحة؛ لكونها لم تضف إلى شهادة تطعيمه لقاحاً ضد شلل العقول بجوار لقاح شلل الأطفال.

ومع كثرة هؤلاء المتسلقين تكشَّف لكثير من أطياف المجتمع عوارهم، وقد كان من قبل مستورا، فأصبحوا مثار السخرية والتندر حتى ممن لا يحمل الشهادة الابتدائية، حتى أولئك الذين يجاملونهم من أقاربهم وأصحابهم ومرؤسيهم صاروا يدركون ما هم فيه تأزم حين ينسى أحدهم أن ينادي حضرته بلقبه المبجل.

ومؤخراً تنبهت لهم بعض الجهات الحكومية، ففي خطوة جريئة صارمة بادرت وزارة التربية والتعليم إلى تعرية المنتفخين أوراماً من منسوبيها حاملي الألقاب العلمية الزائفة، فحذرتهم من تصدير أسمائهم بأي لقب علمي غير معترف به من وزارة التعليم العالي، وإلا فسيكونون عرضة للمساءلة النظامية.

جاء ذلك في تعاميم ميمون نشرته الوزارة عن وزيرها الحصيف في موقعها الرسمي بتاريخ 21-5- 1429هـ.

إنه تعميم مسؤول واع يسهم في كشف القناع عن السوق السوداء حامية الوطيس التي يروج لها سماسرتها هنا وهناك، مجتذبين إليهم ضحاياها من طلاب الزيف، من مبتاعي الوهم بجهد وهمي، ومبالغ طائلة، مقابل ورقة قد لا تساوي ما عليها من مداد.

أيها السادة، ليس خطر أولئك المخدوعين كامناً في أنفسهم ونفسياتهم فحسب، لو كان كذلك لما حذرت منهم الوزارة، ولكانت اكتفت بعرضهم على الجهات الصحية المختصة، ولكنه خطر يمس المجتمع؛ ويوهن من قوى مسيرته العلمية الصحيحة.

ما بالكم ببعضهم وقد تصدر في وسائل الإعلام المختلفة، وراح يشرق ويغرب متوسلاً الجماهير بلقبه الزائف، ويغرر بأغرارهم، وليس في جرابه أكثر مما في جراب جدته التي لم تسهم في زرع الثقة في نفسه.

ومع أمثال هذه التحذيرات والتنبيهات التي سبقت إليها وزارة التعليم العالي ظل الباب مفتوحاً على مصراعيه، وسيظل كذلك ما لم تتخذ معه التدابير الرسمية الحاسمة التي تحمي جناب العلم، وتوقف مد ابتذال الشهادات العليا، وتحفظ حقوق المثابرين الذين بذلوا في سبيل تحصيلها من أعمارهم وجهدهم ما لا يستوعبه أولئك المتطفلون، وأن يُفتح المجال للجادين من الراغبين فيها عبر قنوات مشروعة ميسرة يجتازها المؤهلون ممن لم تسعفهم الظروف لتحقيق معدلات جامعية تتيح لهم الالتحاق بالبرامج المعتمدة للدراسات العليا.

إن التغاضي عن هذه الظاهرة تفقد الشهادات العليا قيمتها، وتساعد على جعلها سلعة رخيصة يتهافت عليها كل من هب ودب ممن يثقله الشعور بالنقض ليتدكتر هو أيضا، فلا فرق بينه وبين الدكاترة الحقيقيين في منظوره المتهافت، إن يديه كأيديهم، وله قدمان كأقدامهم، وفي أعلى جسده جمجمة تبدو من الظاهر كجماجمهم، ولا يختلفون عنه في شيء إلا أن الحظوظ والفرص حالفتهم، ولذا بدا له أن يبرهن على تميزه واقتدار بما يمتلك من مال، فبدلاً من أن يعوِّض عن نقص بشراء رقم هاتف مميز أو لوحة مميزة ترفعان مكانته في أنظار أشباهه، ثم يفاجأ بإضافة صفر يفسد عليه نكهة التميز، ويفقده قيمة ما دفع، صار من الأنسب له والأكثر إجلالاً وهيبة أن يشتري شهادة له وللزمن، والبائعون منتشرون محلياً وخارجياً، ولا يطلبون منه إلا اسمه الرباعي، واختيار التخصص الذي يريد، وجهداً وهمياً يُنجز في أيام، ومبلغاً من المال هو في كل حال أقل من المبالغ المدفوعة في المميَّز من أرقام الهواتف واللوحات.

صديق لي يعمل في قطاع خاص، ومؤهله ثانوي، وأنعم به وبمؤهله متى اعتد بنفسه وبمؤهله الحاصل، ذكر لي هذا الصديق أن أحد سماسرة الشهادات عرض عليه في أول الإجازة الصيفية المنصرمة أن يلتحق بجامعتهم الموقرة الكائنة في إحدى شقق الرياض، وضمن له السماسرة الشهم أن يساعده في الحصول على شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه دفعة واحدة وفي التخصص الذي يريده، وأنه لن تنتهي الإجازة إلا والناس ينادونه: بحضرة الدكتور، حينئذ فكر صديقي بالعرض المغري، وعرض الأمر على رؤسائه في العمل، وسألهم عن المردود الوظيفي لتلك الشهادات، ولأنهم عمليون أخبروه أنه قد يُستغنى عنه بشكل أو آخر متى استرخص نفسه بهذه الحيلة الدنيئة.

ومما يجدر ذكره في هذا السياق أمر مخجل وقفت عليه قبل عامين في دولة يُباع فيها كل شيء، فهناك في معرض الكتاب عرض علي سمسار بضاعته، وأبرز لي بياناً بالشهادات العليا التي تمنحها جامعات من ورق في شقق، وحين استفضت معه حاول أن يؤكد لي أنها شهادات معتمدة ممهورة بأجمل التواقيع والأختام، ولن يستغرق حصولي عليها إلا أياماً قليلة مقابل 10.000 دولار، وبحث سيعينني عليه فطاحل المتخصصين، وإن لم يكن لدي متسع من الوقت فثمة فطاحل عاطلون يسرهم أن ينجزوا البحث كله مقابل 5000 دولار إضافية، ولما عابثته وقلت له: أريد شهادة دكتوراه في الطب، ولم تكن ضمن التخصصات المعروضة، قال: لدينا كل التخصصات، ولكنني أنصحك أن تختار تخصصاً لا يسبب لك المشاكل، ولا يسألك عنه أحد، ولدينا أسماء تخصصات براقة مبهمة لا يعيها حتى أولئك الفطاحل، ومع ذلك فسأترك اختيار التخصص لضميرك!!!

هل قال ضمير؟؟؟

حاصل على الماجستير والدكتوراه في الأدب العربي

بعد كدح دام ثمانية أعوام



alrsad@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد