Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/06/2008 G Issue 13034
الخميس 01 جمادىالآخرة 1429   العدد  13034
التخطيط.. والقوالب الجامدة
د. عبدالمجيد محمد الجلال

يعد التخطيط الاقتصادي أسلوباً للتفكير، ونظاماً للعمل، يقوم على تطبيق المنطق العلمي في تحديد الأهداف العامة والأسس الإستراتيجية والأولويات في إطار الموارد والإمكانات المتاحة والمتوقعة، وترجمتها إلى منجزات كمية ونوعية، خلال فترة زمنية معينة، مع دعم هذا الجهد التنموي بالأدوات والآليات والبدائل والإجراءات التنظيمية والمبادرات الملائمة، وكذلك بالدراسات المساندة التي يفترض أن تسهم في تحقيق أفضل النتائج بأقل التكاليف الممكنة، ثمَّ متابعة التنفيذ على الصعيدين الكلي والقطاعي للتحقق من كفاءة الأداء، وفق الأهداف المحددة، ومعالجة الصعوبات أو المعوقات بالسياسات المناسبة.

وقد اعتمدت الغالبية العظمى من دول العالم على التخطيط الاقتصادي، بأنواعه المختلفة، خدمةً لأهدافها الوطنية، رغم اختلاف النظم الاقتصادية والسياسية، ومستويات التقدم الاقتصادي والاجتماعي في هذه الدول.

ويمثل نظام التخطيط خياراً إستراتيجياً تنموياً للدول النامية، تسعى من خلاله إلى إحداث تحولات هيكلية - اقتصادية واجتماعية وتنظيمية - تؤدي إلى إطلاق طاقات إنتاجية ذاتية يتحقق بموجبها تزايد مطِّرد في متوسط إنتاجية الفرد وقدرات المجتمع، بهدف تحسين مستويات المعيشة، ونوعية الحياة، والمبادرات الفردية.

والتخطيط عملية ديناميكية تتغير مفاهيمها وأساليبها وأدواتها بالحراك الفكري والاقتصادي والاجتماعي، على مستوى المنظومة العالمية، وبالمتغيرات العلمية والفنية المصاحبة لهذا الحراك.

وتتباين نسب نجاح التخطيط كعملية مجتمعية شاملة وواعية من مجتمع إنساني إلى آخر، حسب توفر شروطها الموضوعية، وكلما كان التخطيط مواكباً للتطورات العلمية والمعرفية، وأساليب العمل والإنتاج الحديثة كانت نتائجه أكثر جدة وإبداعاً، وأكثر وفاءً وإنجازاً لاحتياجات المواطن واقتصاديات الوطن.

وبإطلالة خاطفة على المشهد التنموي السعودي، وخططه الخمسية المتعاقبة منذ (39) عاماً ونيف، ابتداءً من عام 1389هـ (1970م)، وتحديداً من زاوية (أساليب العمل ومنهجية التخطيط) إعداداً ومتابعة، تبدو لنا الثغرات والعيوب، فالأساليب والمنهجية المتبعة تفتقر إلى الديناميكية والتفاعل مع الحراك العالمي المتجدد في أساليب التخطيط ومناهجه، فإطارها العام الحالي لا يزال يعمل داخل قوالب شبه جامدة، أو ساكنة، إضافة - وهذا هو الأهم - إلى وجود حالة ضعف عام مزمنة في الإحساس بمسؤولية التطوير والإتقان والإبداع. فإعداد الخطط ومتابعتها، ظلَّ، ولعقود خلت، يتم وفق آلية جامدة، بل تكاد العقول، والأدوات، وطرائق العمل المتبعة هي نفسها، ومن ثمَّ فقد كانت الخطط الاقتصادية المنفذة، في الغالب نسخاً مكررة، وتحتوي على الكثير من الجمل والعبارات الإنشائية لتوصيف الاقتصاد الوطني بصيغ تتجاوز في الغالب حقيقة هذا الاقتصاد ووضعه الراهن والمستقبلي.

على سبيل المثال أنموذج (وثيقة الخطة) فالقراءة العلمية لمضامينها، ربما تقود إلى الشعور المتزايد بأنَّها تحاكي اقتصاداً غير اقتصاد هذا الوطن، وقضايا وهموماً، غير تلك التي يستشعرها أبناؤه. ومن ثمَّ فهي تفتقد بالتأكيد الشفافية اللازمة للبناء التخطيطي السليم.

ومن النماذج الأخرى ذات الصلة (ورقة السياسات، والخطة التشغيلية، وتقرير المتابعة) إذ تكاد تخلو من عناصر الإبداع والابتكار، يتكرر فيها المحتوى والمضمون في كل خطة خمسية، بل وتتسم هذه القوالب الجامدة كذلك بالازدواجية، فالخطة التشغيلية مستنسخة من ورقة السياسات، وتقرير المتابعة مجرد تقرير روتيني يتم وفق آلية عفا عليها الزمن، وينتهي به الأمر إلى أرشيف الحفظ.

أنموذج ثالث يتعلق بتصنيف القطاعات إلى تنموية وإدارية، وحصر الخطة التشغيلية في القطاعات التنموية دون الإدارية، فهذا التصنيف غير دقيق، ولا يستند إلى معيار فني منضبط، وقد أدى تطبيقه إلى حرمان بعض الجهات والمؤسسات العامة من حقها الطبيعي في ربط منشآتها، وبرامجها بالخطة العامة للدولة، والاستفادة من دوران عجلة التخطيط رغم عيوبها وعثراتها. ومع عدم وجاهة هذا التصنيف، فإنَّ تطبيقه يتم كذلك بصورة انتقائية على جهات إدارية بعينها، وفق قاعدة الكيل بمكيالين.

إنَّ التخطيط التنموي بمفهومه الشامل عملية متعددة الجوانب والأبعاد، تغذيها المكتسبات المعرفية، والتدفق الكثيف والمتنوع لمصادر المعلومات وشبكاتها العالمية المتنوعة، فضلاً عن مواكبة التطورات المتلاحقة على صعيد مناهج التخطيط وأساليبه، وامتلاك رؤى واضحة ومحددة في التعامل مع معطيات الزخم الاقتصادي العالمي المعاصر، وهذا الأمر لن يتحقق في التجربة السعودية إلا بضخ قيادات جديدة فاعلة، ذات قدرات إدارية وفنية عالية، تدير ميكنة التخطيط في إطار مؤسسي، ووفق قوالب متحركة ومتجددة، تأخذ بمستجدات نظم التخطيط، وتقنياته، ومناهجه وأساليبه، في إعداد مشاريع الخطط الاقتصادية، وتمتلك قبل ذلك الإرادة والمصداقية القادرتين على إحداث التغيير والتطوير في أساليب العمل الحالي وتطبيقاته، وتحسس احتياجات الوطن والمواطنين، في إطار المحافظة على مستودع قيِّم الأمة وتراثها، وبما يدفع بتواتر النقلات النوعية في مسيرة الوطن وتعزيز استقراره ورخائه.

بهذا التوجه يمكن تعديل المسار، والأخذ بكل المعطيات الحديثة، وتحسين الأداء، وإنجاز المهام والأعمال بشفافية عالية، وبأقصر وقت ممكن.

إنَّ (الحرس القديم) بكل قياداته وأتباعه قد قدَّم ما لديه، ولا يجوز بأي حالٍ من الأحوال أن يظلَّ يهيمن بقوالبه الجامدة على برامج التخطيط في المملكة لعقود زمنية أخرى.

هذا ما نؤمله، ومن أجله، ندعو إلى استنهاض المزيد من العقول والهمم، لبناء نسقٍ تخطيطي يفي باحتياجات الحاضر، ويستشرف آفاقٍ المستقبل، ويُعنى بإنسان هذا الوطن الطيِّب المبارك، لأنَّه هو بالأساس محور التنمية، والمعني بثمارها.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد