Al Jazirah NewsPaper Saturday  07/06/2008 G Issue 13036
السبت 03 جمادىالآخرة 1429   العدد  13036
مسكننا السعودي السعيد
فوزية البكر

لا يوجد لمثل هذه الظاهرة مثيل في العالم، فبيوتنا فيما يبدو هي الأطول في أسوارها المحيطة بالمنزل والتي تلتف حولها بأحكام منقطع النظير، ولذا فأينما أذهب، سواء خضت في بلاد الله الواسعة أو حلّقت في أجواء الخليج، فأول ما يلفت انتباهي فعلاً هو (قصر) جدران بيوتهم مقارنة ببيوتنا، كما أنهم يسمحون للعام من حولهم أن يشاركهم خضرة المنزل وجمال مسطحاته

الخارجية، في حين يكون كل ذلك ملكاً خاصاً خالصاً لأهل البيت في ديارنا السعيدة، ولذا فإنّ أكثر ما يميِّز شوارعنا الداخلية هو فقرها الجمالي والبيئي المدقع.

والداخل إلى بيوتنا سيريعه حجم المسطحات المبنية مقابل مساحة الساحات الخارجية أو الخضراء، وسيعلم يقيناً أننا نمتلك ذاكرة معطوبة في مواجهة الطبيعة، وهذا ما يفسر عدم تواصل الأجيال الحالية مع الطبيعة بأيٍّ من أشكالها، فاذا كنا قد تواصلنا ونحن صغاراً مع مزرعة الجد أو الخال أو العم رغم سكنى المدينة، إلاّ أنّه أتيح لنا من خلال مزارع الأقرباء الذين كانوا يقطنونها كسكن لهم أن نلاحق الطيور وأن نتسلّق النخيل ونتجرّح وندمى، كما أكلنا اللون (البلح الأخضر) وسبحنا في البرك الراكدة وتابعنا في ذهول الأولاد وهم يمارسون عمليات القتل البشع في الكائنات الصغيرة الحية (أعتقد أنّها كانت عادة عامة عند الكثير من الذكور في السعودية وهي شطارة أن تعذِّب كلباً أو قطة أو تفصل رأس عصفور عن جسده، وقد فعل الكثير من أولاد العائلة ذلك وكانوا يتندّرون به ولم يكن ذلك يجد رفضاً من الثقافة السائدة التي رأت في ذلك ربما شيئاً من الرجولة، وهو ما قد يفسر في بعض ملامحه بعض أشكال ثقافة العنف التي تزرع جنبات الثقافة المحلية)، كل ذلك في حين لم تعرف هذه الأجيال إلاّ نظام الاستراحات ذات المسطحات العشبية الخضراء، ولا شيء غير ذلك وهو ما يُعَد نظاماً مقلوباً للطبيعة الإنسانية التي لا يتاح لها بشكل طبيعي التواصل مع الأرض والعشب والحيوان والأشجار، في حين أنه لا شيء يعيدك لإنسانيتك كالتعامل مع ورقة الشجر والمشي فوق أوراق جافة تتكسر تحت قدمك، أو تأمل الاختلافات المذهلة والدقيقة التي أبدعها الخالق في ألوان وأشكال وأحجام أوراق الشجر الأخضر من حولك، وذلك في استجابة لم تكن واعية بالطبع لدعوات قديمة نادى بها فلاسفة ومفكرون عبر التاريخ، وعلى رأسهم جان جاك روسو رائد الفلسفة الطبيعة، والمنافح عن ضرورة التواصل الإنساني معها دون تدخُّل من البشر، وذلك ليعرف الإنسان ذاته ويفهمها، وهو الأمر الذي مارسته الشعوب عبر التاريخ الإنساني للبشرية حتى وصل الإنسان لعصر المدن الأسمنتية فلطفها بالحرص على المسطحات الخضراء الشاسعة في قلب المدن وأطرافها، مع المحافظة على كل مكوّنات البيئة دون تدخُّل البشر قدر الإمكان، وقد منحهم الله هذه الأمطار وهذا المناخ المناسب في دول الغرب، فكان هناك نوع من التعادل بين الغرق في الأسمنت وملامسة الطبيعة، وهو ما اختفى كليّة مع هجرتنا الجماعية في الخليج للحياة الريفية، وقبول العيش وسط هذه السجون الأسمنتية، دون بدائل واضحة للتعامل مع الطبيعة.

منازلنا من الداخل أو غالبيتها مبنية وفي النية الآخرون من ضيوف وزائرين لا مدى وظيفية المكان ونسبة استخدامه وعمليته لحاجات الإنسان اليومية.

البيوت عبارة عن صالات استقبال كبيرة ومجالس شاسعة، تبذل الأسرة الكثير من دخلها لتزيينها بقطع الأثاث الذي يفوق مستواه في العادة مستوى باقي الفرش الذي تستعمله الأسرة في حياتها اليومية، فهذا مخصص للضيوف الذين يجب أن يروا الغالي والنفيس حتى لو كان استخدامها لا يتعدّى ألاّ مرات قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة خلال العام! وهكذا تبقي هذه المساحات الكبيرة مغلقة يتآكلها الغبار والنسيان دون وظيفة واضحة إلاّ التفكير أنه ربما (تجينا عزيمة كبيرة!) بل إنّ هناك ظاهرة ربما فعلاً نتفرّد بها عن غيرنا من الشعوب والمجتمعات، وهي أننا نخلي طوابق كاملة (في الغالب الطابق الأرضي) ونتركه كمجالس وصالات استقبال ونسكن فقط في الطابق الأول أو الثاني (سمه ما شئت) بل إن إحدى العوائل الغنية فضّلت العيش في البدروم وأخلت المنزل الفخم المكوّن من خمسة طوابق للفراغ والتراب والضيوف المحتملين!

المطابخ .. قصة حقيقة تستحق قراءة ثقافية مستقلة فما نفكر فيه ليس نوع الاستخدام أو درجته بل فخامة ولون واتساع المطبخ الداخلي، حيث سيعرض أيضاً للضيوف والذي تتلخّص وظائفه في إعداد كوب من الشاي أو القهوة، في حين تتوارى الوظائف الأساسية واليومية للمطبخ لتنزوي في ظل زاروب صغير يتم إنشاؤه فيما تم التعارف عليه بين السعوديين (بالمطبخ الخارجي) والذي تسند إليه كل وظائف المطبخ الشهيرة! (أنا فعلت الشيء نفسه بالمناسبة)! وهنا أيضاً نحرم أنفسنا من الاستمتاع بالمساحة أو اللون أو نوع الخشب لصالح الضيوف المحتملين، هذا عدا عن المساحات الضائعة دون وظيفية واضحة!

ومعظم بيوتنا تزخر بكمية هائلة من الأبواب والحمامات وأفياش الكهرباء واللمبات، وكأنك داخل قاعة عرس ونركض في أثناء بناء المنزل ونصب هذه الآلاف المؤلفة من الريالات في جيوب شركات الكهرباء والسباكة والمطابخ، وكل منا يرسم هذه الصورة الوردية لبيت الأحلام ليكتشف بعد أن ينهيه أنّ حلمه المستحيل هو لو تمكن من هدم هذا البيت وإعادة بنائه مرة أخرى.

معظم ما نقوم بإنشائه وتركيبه في هذه البيوت لا يخضع لوظيفية واضحة، بمعنى ماذا سيكون دوره في حياتنا عند السكن .. كما أنّ كل هذه البيوت قد بنيت وفي البال وجود عمالة منزلية، كما لو أنّ هذه العمالة ستستمر معنا إلى الأبد، وهو الأمر الذي ينفيه التاريخ، فكثير من المجتمعات عرفت ظاهرة العمالة المنزلية في فترة من تاريخها، لكن القوانين الضابطة للأجور وساعات العمل ونظم الهجرة ... الخ، قد قلّصت من قدرة الأفراد على استخدامها المفتوح بحيث بدت نادرة تماماً، كما هي الآن في أوروبا وأمريكا وهكذا ووسط بيئة تحفل بالغبار والعواصف الترابية طوال العام، من سيقوم بتنظيف وتلميع هذه المساحات والصوالين والغرف ودورات المياه، حين يحدث وتختفي العمالة المنزلية من حياتنا، أو تبدأ القوانين الضابطة لاستخدامها في التعقُّد كما يحدث اليوم بحيث لا يتاح إلاّ للقادرين مالياً وبشكل مفرط جلبها واستخدامها؟

أنّ نمط الحياة القائم وكيفية استخدام المساحات داخل المنازل والوظائف التي تقوم بها هي لوحة ثقافية وانثربولوجية تستحق الدراسة في أوضاع اجتماعية وقيمية تتعرّض للتغيُّر، والمهم هو الرسالة التي يجب أن تصل إلى الجيل الجديد قبل أن يخضع للتوقعات اللاجتماعية والقرابية من حوله، فيقع أسير اللاوظيفية في المكان والمحتوى .. حين يفكر في بناء مسكنه السعودي السعيد!




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد