Al Jazirah NewsPaper Wednesday  18/06/2008 G Issue 13047
الاربعاء 14 جمادىالآخرة 1429   العدد  13047
في وداع الأمس
د. إبراهيم بن عبد الرحمن التركي

(1)

** حتى الكاتب يفرحُ بإجازة الصيف؛ إذ ينعتق من أسر الالتزام، ويتجاوز إشارات عدم الجدوى، ويحسُّ بهدوء الحريّة؛ فلن يفكر: عمّ، وكيف، ومتى، وإلى متى يكتب؟

** ويحسب كثيرون أنّ الكتابة متعة، وقد تكون لأقوام أو أقلام، غير أنّها مسؤولية يقل معها حجم الإمتاع، وتتضاءل مسافات الإبداع، ويمتد الفصل والفواصل بحجم الفضاء؛ فينأى القلم عن الورقة، ويتحكم العقال في المقال.

** وتعود بنا الذاكرة إلى أيام البدايات، وهي (المدرسة والمركز والمعهد)، ونستعيد صحف الحائط، ومجلات الاستنسل، حين لم نكن نستطيع تجاوز الخطوط المرسومة، فثمة من يفكِّر بالنيابة عنّا، وهي مرحلة أقربُ إلى (الوأد) أو (الموت)، وكما لا أحد يموت عن أحد فلا وجود لكائن يُسلمُ عقله لغيره فيُديره كيفما يشاء، إلاّ أن يكون عقلاً لا وجود فيه لخلايا حيةٍ.

** كنّا نكتب - كما تشاء البيئة الثقافية والاجتماعية -، ويكفينا أن نمارس لعبة الاكتشاف ولو لم نبلغ لذّة الدهشة، ونردّد المُعاد والمعار والمُعاق، ونمضي باحثين عن كتاباتٍ لا تُشبهنا، وإبداعٍ لا نشبهه.

** وتبقى في نفوسنا أشياء من دروس التعبير، ومقاومة التغيير، ومحدودية التطوير، دون أن ننسى أنها (الولادة)؛ تحكمها مواسم الضعف.

(2)

** الحديث للذكريات؛ فلا بأس إن كتب صاحبُكم - وهو طالب المعهد العلمي (الديني) - عن (مكونات الذّرة ببروتوناتها ونيوتروناتها وإلكتروناتها ونظرية آينشتاين في النسبية و(الزمكان) متأثراً بقراءته للدكتورين أحمد زكي وجمال الدين الفندي والسلاسل العلمية المتاحة إذ ذاك، سعيداً برؤية (مقالاته) في مجلة (المركز الصيفي) التي لم يقل له محرورها: وما شأنك وأنت من أصحاب (الخليل وابن عقيل والجلاليْن)؟، وكان يمكن أن يكونوا قيداً أمامَه، وإذْ لم، فقد عاد طائعاً إلى حيثُ اختار مسيرتَه (التنوعيّة) متنقلاً بين علوم الشريعة واللغة والاجتماعيات والتقنيات والتربية، وأدرك أنّه القدر الجميل يأذن بالانفتاح قدر المتاح.

** المقال في وداع موسم كتابي حافل؛ فاغفروا له إن امتدت الذكريات، وقدروا أنه (العُمر) يمضي بنا فنرى وراءنا أميالاً وأمامنا خطوات، والخطوة لما يأتي لا تحتاج إلى مثال، أما الأميال ال(مضت) ففيها الكثير مما يقال، وبذا يستمتع من تخطوا منتصف العمر - كصاحبكم - بأحاديث الذكريات، ويتطلع الشباب للأمام والأعوام القادمات.

** عمرٌ بأكمله يستحق استفهاماً عن جدوى الكتابة؛ فهل اختلفت الحروف الأولى قبل أكثر من ثلث قرن عن الكلمات والمطولات والمؤلفات؟ وهل تحقق شيء من الحُلم أم أنها سنواتُ المحكوم بالحياة، يُسيَّر ويدبَّر، وتمرّ به الفصول حتى لا يبقى إلا الطلول..؟

(3)

** الكتابة لا تُساءل بمثل هذا، إلا إذا كانت الجدوى عائداً مادياً أو وجاهياً، ما لا يُحتاج معه إلى مهارة أكثر من (ثقافة المعاريض)، ولهذه متعة يعرفها أربابها من محترفي الارتزاق والرياء فيما ناتجه النفاق والخواء.

** ومن افتتاحية (حديث معهد الإدارة) إلى (هوامش صحفيّة) رحلةٌ لم تطل؛ فقد كانت الأولى تذكرة العبور للثانية، وناقش قضايا إدارية في نشرة المعهد، وكتب أول مقالاتِه في (الجزيرة) - قبل أقل من ربع قرن (ذو القعدة 1404هـ) -، وكان عنوانه : (في الصحراء ولا نرتحل).

** ألغى من عمره الكتابيّ ثمانية أعوام، ورغم اعتداده بها فقد كانت فقرات قصيرة لم ير مبرراً لجمعِها في كتاب؛ وعندما وجد أن طابع كتاباته يدور حول اغتراب الكلمة جاء مؤلّفه الأول (سفر في منفى الشمس)، وتبعته ثمانية مؤلفات أخرى، ولديه المزيد، دون أن يغيب السؤال العتيد: أين القيمة؟ وهل من جدوى؟.

(4)

** قد تُسعد الذكرياتُ فئاماً يظنون أنهم حققوا شيئاً من الإنجازات، غير أنّها ترسم ملامح عدم الرضا عند فئامٍ آخرين يحركهم استفهام القيمة المضافة التي مثلتها لهم أو لسواهم سنواتٌ طويلة من العمل الكتابيّ المتكئ على الاستقراءِ الفكريّ المكثف، وربما تساءلوا: هل سيكونون أفضل حالاً لو انصرفوا للكتابة الخدميّة الميسرة التي لا تتطلّب غير المعروض والتوقيع؟

** هنا يجيئُ الغد عريضاً أمام من يكتبون له، لكنه يتلاشى في وجه من يُرتهن للماثل والمائل والمقابل؛ وبذا يأتي رضا الذات بعيداً عن المكاسب الشخصية: مالاً أو مركزاً أو شهرة.

** الحياةُ أكبر من شكل أو عائد أو انتشار، وبعد سنواتٍ تطول ستحاكم الشخصيات العامة (غيابياً)، وقد يُحكم على أجيال عاشت معها أو عايشتها؛ فهل تستحقّ أن تمثلنا؟ وهل يجوز الصمت والتمرير والتبرير لأجلها؟ وأي تاريخ سيكتب عنا وعنها..؟

** وهنا - أيضاً - يبدو استفهام مهم؛ فأين يجد الإنسان نفسه، أفي الهوامش حوله أم في المتن داخله؟ وهل يكفي للسعادة أن يقول الناس عنه: هذا هو..! أم يقول هو عن نفسه: هذا أنا؟

** وإذ جاء الاستهلال شخصياً فلتكن الخاتمة عامة.

(5)

** (أمارتي صن) عالم هندي بارز، فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998م، وترجمت كتبُه إلى أكثر من ثلاثين لغة، ولعلّ من آخرها كتابه (الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي)، وقد صدر بالعربية عن (عالم المعرفة) هذا الشهر (حزيران 2008م)، وهو كتاب يستحقُّ القراءة.

** روى (صن) في تمهيد الكتاب موقفاً أمام سلطات الهجرة البريطانية حين قدَّم جواز سفره الهندي واستمارة الدخول المتضمنة عنوانه: (منزل رئيس الجامعة - كلية ترينيتي - كامبردج)، وإذ رآه الضابط المكلف بعين الضآلة فقد سأل عن علاقته برئيس الجامعة وهل هو صديق قريب له..؟!،

** فكّر العالم الكبير قليلاً؛ فهو نفسه رئيس الجامعة، وهو - أيضاً - صديق قريب لذاته، ولم يجب لفوره، وداخل الشك الضابط ظاناً أنّ في الأمر مخالفة لقانون الجوازات البريطاني، ولم يدر أنه الاستعلاء يرتسم في أذهان من لا يرون الناس إلاّ بأشكالهم، وأنهم العلماء لا يأبهون إلاّ بما يسكنُ دواخلهم، وتستكين به خوارجهم.

(6)

** تكتمل الحكاية بهواجسَ ذاتيّة تنقادُ إلى أن تأمل في حكم لا يجيئ وقت حياةِ الكاتب أو يخدم مصالحه المباشرة، وهنا يبدو الرقيب الحقيقي في الضمير اليقظ الذي يُحاسب بدقة وبقسوة، وويل لمن يبيع آجلاً بعاجل.

** هكذا تبلغ الأربعاوية منتهاها، مؤذنةً بإجازة قد تطول، لتتأمل استفهامات الرحلة والمرحلة، والهدف والجدوى، ولتتزود بالقراءة والاستقراء، وترقب الأنواء والأجواء، وربما يأذن الله بعودة وإجابات ولقاء.

* الغياب تجدد.



E:Mail:IBRTURKIA@Hotmail.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6745 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد