Al Jazirah NewsPaper Tuesday  01/07/2008 G Issue 13060
الثلاثاء 27 جمادىالآخرة 1429   العدد  13060
التغيرات الإقليمية الراهنة: التحديات والإدارة
اللواء الدكتور محمد بن فيصل أبو ساق

تلوح في الأفق الإقليمي اليوم بوادر تغير في مسار العلاقات ذات التأثير على مجرى الأحداث السياسية والأمنية المتأزمة حاليا. والخشية أن تتم بعض التغيرات في مقايضة لتحسين مواقف أطراف على حساب أخرى، ودون النظر بشمولية تحقق نتائج قابلة لتحقيق السلام والاستقرار الشامل والعادل.

ونظرا لضعف التدخلات والحلول الدولية والإقليمية, فها هي أزمات الشرق الأوسط تتراكم من عقد زمني إلى آخر؛ وتخلف الكثير من التعقيدات والتبعات التي طالت الكثير من الأوطان.

ولو نظرنا إلى العقود الماضية لوجدنا أن كل حقبة زمنية - رغم سوئها حينئذ - تصبح أفضل مما يليها؛ من حيث تراكم الأزمات والحروب.

ومن الطبيعي أن الكثير من الأحداث التي تتم في بلد محدد لا تنحصر أضرارها ونتائجها على ذلك البلد بل تتعداه إلى المستوى الإقليمي والعالمي أحيانا.

سوف تعرض هذه المقالة الى واقع الأزمة الراهنة في العراق وتحديات تبعاتها وخيارات الإدارة الإيجابية المفترضة لهذه الأزمة الإقليمية نحو مخارج آمنة لصالح الجميع.

لقد دخلت هذه الأزمة في عامها السادس, وتراكمت بسببها الكثير من السلبيات والخسائر والمآسي داخل العراق وخارجه.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وما زالت من أكثر الخاسرين والمتضررين من جراء حملة حربية يتولون شنها وإدارتها وتمويلها.

وقد أصبحت الخسائر والأضرار التي يصعب إحصاؤها اليوم في العراق قضية إقليمية وعالمية لا تحتاج الى عرض.

كما لحق بدول الجوار الكثير من التبعات السياسية والأمنية والاقتصادية بسبب هذه الحملة الحربية التي تغيرت خططها ومسمياتها وقادتها وبقيت على حالها دون مؤشرات يطمئن لها الجميع.

وكما نشر مؤخرا في بعض وسائل الإعلام فإن الخسائر المالية للولايات المتحدة قد فاقت توقعات المخططين لهذه الحرب بنسب عالية ولا يزال الاستنزاف المالي والإنهاك المعنوي للاقتصاد والقوى المسلحة الأمريكية مستمرا ناهيك عما لحق بسمعة الحكومة الامريكية من ضرر لم تتمكن دبلوماسيتها النشطة والغنية من إصلاحه.

إن 2.7 تريليون دولار أمريكي التي تشير بعض وسائل الإعلام اليوم عن أنها تعد تكاليف لهذه الحملة الحربية ليست إلا جزءا من مجمل تكاليف وتبعات هذه الحرب التي غيرت معايير الخدمة لأهم وأكبر وأفضل جيوش العالم.

وبعيدا عن مفهوم المؤامرة في هذه الحملة الحربية التي قد تكون موجودة أو غير موجودة، وليس هذا مجال لمناقشتها, فإن الإنسان يتعجب عن حجم الفشل المبكر في التخطيط لشن هذه الحملة الحربية وخطط إنهائها إن لم يكن بمكاسب فبأقل الخسائر.

ومصدر العجب هو القناعة بتوفر مقومات التخطيط الاستراتيجي لتحقيق المخارج الآمنة ووضع حد مبكر لنهايتها منعا للاستنزاف والإنهاك وتراكم المخاطر والسلبيات في وجه المستقبل كما حدث.

فقد يحاول بعضهم أن يضفي على هذا الواقع من الفشل على الارض بأنه من قبيل الفوضى الخلاقة التي ألمح إليها سابقا, وأنا لا أقر بذلك.

وقد يقول بعضهم إنها إرهاصات للشرق الأوسط الجديد أو الكبير وأيضا لا أقر ذلك.

ولا أراها أكثر من كونها حملة حربية خاطفة حققت نجاحا باهرا في صفحتها الأولى لم يتوقعه المخططون؛ وتدحرجت بعد ذلك النجاح في كل اتجاه يجلب لها المزيد من التعقيد.

ولا تزال هذه الحملة تستهلك المزيد من الجهود لتجريب كل المحاولات في سعيها نحو الحل الأمثل, ولكن بعد تجريب كافة الخيارات الأخرى.

وقد كنت ممن بادر الى التحليل المبكر لهذه الحملة الحربية وبيئتها الداخلية والخارجية عارضا قناعاتي الشخصية ومستندا الى معطيات التحليل السياسي والاستراتيجي نحو مسارها وتبعاتها المتوقعة.

ففي إحدى المقالات المنشورة أشرت الى أن قضية ضباب الحرب الذي عميت بموجبه البصائر في استغلال النجاح وتطويره بما يلائم الواقع السياسي والاجتماعي الإقليمي.

وذكرت أن سهولة الفوز في الصفحة الأولى لغزو واحتلال العراق قد بسطت بظلالها على مراكز التخطيط والقرار.

وهكذا تدور السنة بعد الأخرى، وكانت أبرز عناوينها الفاصلة أن يصل رقم القتلى إلى الألف أو ألفين أو ما يتبع من آلاف من الأرواح التي تزهق من المواطنين والجنود، وكأن ما بين الآلاف من قتلى لا يثير الاهتمام ناهيك عن آلاف أخرى تتراكم من المصابين والجرحى.

وتحت تأثير ضباب تلك الحرب ونشوة انتصاراتها اختفى الدور والتأثير الإيجابي المفترض لمؤسسات التفكير والتخطيط الاستراتيجي التي تعد أعظم البيوت العالمية للخبرة في مجالات شن الحروب وإدارتها وإنهائها.

ولذلك السبب اختفى منطق التوظيف الاستراتيجي لجهود دول الجوار لصالح الأزمة استنادا إلى ما كان يعتقد أنه نصر مؤزر حينئذ, لم تعد بعده حاجة إلى دعم دول الجوار.

وبعد أن تحول ذلك النصر إلى مستنقع العراق, وتحولت الحملة الحربية الخاطفة إلى أزمة مستفحلة, كانت هنالك محاولات متأخرة للاستفادة من دول الجوار بطرق ووسائل مباشرة وغير مباشرة.

ولكن تلك المحاولات من وجهة نظري ظلت نهجا متواضعا فاستمرت الأزمة تتفاقم مستندة في وهجها على الضخ المادي الهائل حيث القدرة المالية الجبارة للحكومة الأمريكية وعلى المخزون الحربي العظيم للعسكرية الأمريكية وقدرته اللوجستية المرنة أيضا.

وما إن فاق مخططو تلك الحملة من تأثيرات ضباب الحرب ونشوة النصر حتى دخلوا في صراع مع أنفسهم تحت ذلك التأثير الذي أفقدهم رؤية خياراتهم نحو خروج أكثر أمنا لهم وللعراق ولدول الجوار على حد سواء.

وحين يكون القادة والمخططون تحت ضباب الحرب فإنهم غالبا لا يناورون على معطيات واقعية تحقق غايات منطقية بقدر تصرفهم العاطفي لكسب الوقت أملا في تعويض الخسائر بقفزات إلى الأمام في انتصارات عشوائية تعتمد على مجرد الآمال.

فإدارة الحرب لا يجب أن يخطفها التكتيك المبني على أهداف محدودة ومكاسب محدودة.

وفي شئون إدارة الحرب وتبعاتها يذكرنا موروث القادة الحكماء على أن (الأمل ليس طريقة عمل).

وفي هذا الشأن ومتابعة لنفس الحملة الحربية في العراق حيث تحولت إلى أزمة إقليمية وعالمية تنهك الجميع فقد تمنيت كما تمنى غيري من المهتمين بأن يكون التخطيط لإنهائها أكثر شمولا للسياسة الإقليمية وأكثر وعيا بالتاريخ.

وقد كتبت مقالة بعنوان (في مثلث الموت العراقي قتلوا التاريخ فقتلهم).

واليوم, ونحن نشهد تغيرات إقليمية رغم ما يتخللها من انفراج ونجاحات هنا وهناك فإن التوتر وتبعات أزمة العراق لا تزال الأكثر بروزا.

ورغم أن أزمة العراق الراهنة ليست المحرك الوحيد لقضايا الشرق الأوسط, ولكنها اليوم, هي محور الشرق الأوسط, وهي حاوية لما قبلها من قضايا الشرق الأوسط, وحاضنة لمستقبل أزمات هذا الشرق أيضا.

فهذه الأزمة على المستوى الإقليمي قد شكلت ولا تزال تشكل تحديات استنزفت الكثير من القوى المحلية والإقليمية, وخلفت الكثير من حالات الإنهاك لكل الأطراف التي أصبحت الولايات المتحدة فيها طرفا إقليميا طاله الكثير من التبعات.

فهل حان الوقت لأن تبحث الولايات المتحدة الأمريكية عن مخارج سياسية واستراتيجية تحقق لها وللأطراف الأخرى مكاسب متوازنة؟ وما يخشى في مرحلة التغيرات الراهنة هو تكرار التخطيط تحت تأثيرات ضبابية أخرى حيث لا سلم ولا حرب تقود المنطقة الى حالة تكون فيها الأوضاع الإقليمية بعد عشر سنوات من غزو العراق أسوأ مما كانت عليه قبل احتلال العراق.

فهل نشهد تطبيقا حقيقيا لتعريف فيلسوف الحرب كلاوزفتز حين قال: ليست الحرب إلا استمرارا للسياسة بوسائل اخرى؟ وأسوأ ما في هذا الشأن، ونحن في هذه المرحلة من التغيرات الإقليمية المتشابكة أن تعمل دولة على تحقيق مصالحها عبر أزمة العراق بما يضر أطرافا أخرى أو يقود المنطقة إلى حالة أخرى أكثر سوءا وتعقيدا على المدى البعيد.

فإذا كان معروفا أن مصالح الدول ليست بالضرورة أخلاقية أو مطالب عادلة فإن من الحكمة أن تكون الدولة الفاعلة قادرة على تجنيب الأطراف الإقليمية مزيدا من التوتر والإنهاك الذي لم يعد هنالك مجال يبرره.

وللخروج من الأزمات الراهنة ومنع الدخول في أزمات قادمة فإن منطق التخطيط الوطني الاستراتيجي يقول بحتمية التفكير الوطني الاستشرافي لكل التهديدات المحتملة المتشكلة فعليا والضمنية منها.

وبعد استشراف المخاطر المستقبلية يتم العمل على وضع تصور مستقبلي لحجم تلك المخاطر، وكذلك تصنيفها وتحديد اتجاهاتها وفرص مواجهتها وتذليل مخاطرها.

إن المعطيات الراهنة للمناخ الأمني الإقليمي وما له من أبعاد عالمية تستدعي ضرورة التخطيط الوطني لوضع كافة الاحتمالات والبدائل.

ورغم أهمية التخطيط الاستراتيجي لمواجهة قضايا المستقبل المتوسط والبعيد فإن مجرد التفكير في هذا الشأن وتداوله عبر نخب وكفاءات متخصصة يحقق ميزات مضاعفة على المدى القريب تصب في صالح إدارة بعض القضايا الراهنة.

وبجدر التأكيد على أن نسبة كبيرة من مقومات النجاح في التخطيط للعمليات السياسية المستقبلية تستنج من القدرة على التحليل الواقعي للأزمة الراهنة ووضعها في إطارها الصحيح.

إنني على قناعة تامة بأن العامل الأساسي في نجاح إدارة مثل هذه الأزمة يستمد من القدرة المبكرة على التنبؤ واستشراف المستقبل والتخطيط لمواجهة مخاطر وتهديدات المستقبل.

ويقول بعض المشتغلين بشئون الفكر الاستراتيجي: إن الفائدة من قراءة المستقبل ووضع الخطط الاحتياطية يوفر الكثير من الجهود ويوفر الكثير من الأموال ويحدد الخيارات الأفضل للتنسيق والتعاون بين كافة وكالة الدولة ويهيئ فرصا لنجاح القيادة والسيطرة حين وقوع الأزمة.

وفي هذا الشأن فإن بإمكان القائمين على التنسيق لتحديد عناصر قوة الدولة وتحديد احتمالات توظيفها وسيناريوهات تطبيق ذلك وما يمكن أن يحدث من محددات لهذا العمل أو مضاعفات لبعض القوى.

وفي كتابه (الأمير العصري), يقول (كارنر لورد) أستاذ الدراسات الاستراتيجية, (لاحظ كارل فون كلاوزفيتز واضع نظرية فنون الحرب العظيمة ذات مرة أن الحرب والعمل السياسي لديهما المنطق ذاته).

ويقول (ومثل فن إدارة العمليات الحربية فإن إدارة شئون الدولة هو فن التكيف مع بيئة معادية حيث تولد الأفعال وردود الأفعال بطرق غير متوقعة.. واذا ما كانت الاستراتيجية وفق الصيغة التي وضعها كلاوزفيتز هي فن استخدام المعارك لتحقيق أهداف الحرب, فإن إدارة شئون الدولة هي فن استخدام الحروب وغيرها من الوسائل المتاحة للقادة السياسيين لتحقيق أهداف قومية).

ولما تقدم فإن التغيرات الإقليمية المتوقعة والمرتبطة بالأزمات الراهنة وفي مقدمتها الحرب في العراق تستحق وقفات جادة لدراستها في بعدها الإقليمي.

ومن حق الولايات المتحدة الأمريكية أن تضع حدا لاستنزافها في هذه الحملة المستمرة في العراق ولكن ليس على نفس الحسابات التي أدت إلى تعقيد الحملة وأوصلتها إلى هذه الحالة المتأزمة.

وإذا كانت الحرب قد كلفت ما يقارب ثلاثة تريليونات دولار مما هو معلوم فإن السلام والاستقرار ليس له ثمن ويستحق أن تقرر له الميزانيات السخية.

وفي الوقت نفسه فإن من حق دول الجوار ومن حق العراق ألا تدار هذه الأزمة الإقليمية على حساب الأمن الإقليمي بالتأسيس لخلافات جديدة تتبعها أزمات وحروب.

وهنا يكمن دور الحكومة في التخطيط لاستيعاب حالة التغيرات الراهنة المحتملة لتحقيق أفضل المكاسب المستقبلية والخروج بأقل الخسائر أيضا.

عضو مجلس الشورى


mabosak@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد