Al Jazirah NewsPaper Friday  11/07/2008 G Issue 13070
الجمعة 08 رجب 1429   العدد  13070

نوازع
عتبة وولادة وابن زيدون
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

لولا خشيتي من غيرة زوجتي التي تعيش معي، لقلت في المرحومة ولادة بنت المستكفي خيراً مما قال فيها ابن زيدون، ولانضممت إلى عبدالله بن الفلاس، والوزير أبي عامر وابن عبدوس في منافستهم على قلبها، لكن ما حيلتي وقد ماتت رحمها الله دون أن أراها، واستمتع بعذوبة شعرها وطيب مجلسها، وأضحك من فحش هجائها، مع تحفظي على كثير من سلوكها.

ولادة أمها مسيحية غير عربية وربما أوروبية وأم أبيها أوربية بصفة مؤكدة، وكانت بيضاء الوجه، ذهبية الشعر، طويلة، ممشوقة القوام بارزة الصدر، دقيقة الخصر، أردافها ثقيلة رابية، ولها خال على خدها.

قال عنها المقري في نفح الطيب: نادرة زمانها ظرفاً وحسناً وأدباً، وقال عنها ابن بسام في الذخيرة: (كانت واحدة أقرانها حسن منظر ومخبر)، وقال أيضاً: وأما ذكاء خاطرها وحرارة نوادرها فآية من آيات فاطرها وقال عنها الضبي: أديبة شاعرة جزلة القول مطبوعة الشعر، تخالط الشعراء، وتساجل الأدباء، وتفوق البرعاء.

أما ابن خاقان فقال في قلائد العقيان ومحاسن الأعيان: كانت من الأدب والظرف وتنعيم السمع والطرف بحيث تختلس القلوب والألباب وتعيد الشيب إلى أخلاق الشباب.

لو كنت من معاصريها لأكتفيت بحضور، مجالسها الأدبية فحسب، وسأكتفي بذلك، ولن أجالسها مجالسة ابن زيدون لها عندما نقل لنا لقاءهما في ريعان الشباب فقال: كنت في أيام الشباب، وغمرة التصاب، هائما بغادة، تدعى ولادة، أرى الحياة متعلقة بقربها، ولا يزيدني امتناعها إلا اغتباطا بها، فلما قدر اللقاء، وساعد القضاء، كتبت إليَّ:

ترقب إذا جن الظلام زيارتي

فإني رأيت الليل أكتم للسر

وبي منك: ما لو كان بالشمس لم تلح

وبالبدر لم يطلع، وبالنجم لم يسر

إذاً لقد طلبت لقاءه، ودعته إلى أن يكون ذلك اللقاء في الليل حتى يكون أكتم للسر، ونحسبهم إن شاء الله قد اجتمعوا على حب عذري بعيد عن كل ما يريب، فلا نظن بهم إلا خيراً، وقال في ذلك: فلما طوى النهار كافوره، ونشر الليل عبيره، أقبلت بقد كالقضيب، وردف كالكثيب، وقد أطبقت نرجس المقل، على ورد الخجل، فملنا إلى روض مديج (مزين) وظل سجسج (لا حر فيه ولا برد) قد قامت رايات أشجاره، وفاضت سلاسل أنهاره، ودر الطل منثور.

وسأتجاوز بعض العبارات التي ألتمس له العذر في إيرادها، فهي من أقوال شاعر وناثر ربما يقول ما لا يفعل، راجياً له المغفرة: إلى أن قال: وبتنا بليلة نجني أقحوان الثغور، ونقطف رمان الصدور، ولما نشر الصبح لواءه، وطوى الليل ظلماءه، ودعتها وأنشدتها:

ودع الصبر محب ودعك

ذائع من سره ما أستودعك

يقرع السن (الندم) على أن لم يكن

زاد في تلك الخطا إذ شيعك

يا أخا البدر سناءً (الرفعة) وسناً (الضوء)

حفظ الله زماناً أطلعك

إن يطل بعدك ليلي فلكم

بت أشكو قصر الليل معك

هكذا اجتمعا وتفرقا، لكنه ينقلنا إلى حادثة حدثت له مع ولادة ربما في تلك الليلة، وربما في ليلة من ليالي الصبا والشباب، يذكر أنه قد اجتمع بها في وجود إحدى جواري ولادة، وهي وصيفة مشهورة تسمى (عتبة) وقد غنتهما فطربا، فطلب من عتبة الإعادة دون إذن ولادة، وأخذت الغيرة مأخذها منها وضاقت بها الأرض بما رحبت، فأخذت في ضرب الجارية، دون سبب، وهو يدرك أنها تشتهي ضربه هو وليس الجارية، لكن لا خيار لديها، فكانت تلك الحادثة نذير شؤم لهما وبداية فراق وخصومة أينعت عن ثمر من الشعر الرائع جنينا ثماره متعة وقطفنا من زهره ما أشبع العين حسناً، وملأ القلب حباً، وشنف الأذن سماعاً، فقال أبو الوليد بن زيدون يصف تلك الحادثة - وكانت عتبة قد غنتنا:

أحبتنا إني بلغت مؤلي

وساعدني دهري وواصلني حبي

وجاء يهنيني البشير بقربه

فأعطيته نفسي وزدت له قلبي

فسألتها الإعادة، بغير أمر ولادة، فخبا منها برق التبسم، وبدا عارض التجهم، وعاتبت عتبة، فقلت:

وما ضربت عتبى لذنب أتت به

ولكنها ولادة تشتهي ضربي

فقامت تجر الذيل عاثرة به

وتمسح طل الدمع بالعنم الرطب

(والعنم، شجر لين الأغصان تشبه به أصابع الحسان) فبتنا على العتاب، في غير اصطحاب،..، فلما قامت خطباء الأطيار، على منابر الأشجار، وأنفت من الاعتراف، وباكرت إلى الانصراف، وشت بمسك الأنفاس على كافور الأطراس (أي أنها كتبت بالمداد المعطر على الصحائف البيضاء التي تشبه الكافور):

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا

لم تهو جاريتي، ولم تتخير

وتركت غصنا مثمراً بجماله

وجنحت للغصن الذي لم يثمر

ولقد علمت بأنني بدر السما

لكن دهيت لشقوتي بالمشتري

إنها ترى نفسها غصنا مثمراً كامل الجمال والبهاء والحسن، أما جاريتها فما زالت غصناً لم يثمر بعد، كما وصفت نفسها بأنها بدر يسطع في السماء بينما شبهت جاريتها بنجم المشتري.

لا أظن أن ابن زيدون كان لئيماً حتى يزيغ ببصره إلى جارية محبوبته ولادة لكنها ربما تكون غيرة النساء حدت بها أن تضرب الجارية وترفض الاعتراف، وتبكر إلى الانصراف، تاركة قلب ابن زيدون ينبض بالحب مدة طويلة من عمره.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد