Al Jazirah NewsPaper Monday  14/07/2008 G Issue 13073
الأثنين 11 رجب 1429   العدد  13073

إرهاب الدولة -2-
د. عبدالله الصالح العثيمين

 

مما أشير إليه في الحلقة السابقة أنّ الإرهاب المتفق على معناه بين عقلاء البشر ظلم محرّم، وأنّ من هذَّب الإسلام نفوسهم ضربوا أمثلة رائعة في حسن التعامل مع الآخرين، وأنّ أكثر القادة الغربيين تملَّكت نفوسهم نظرة الاستعلاء، وأنّ من مفكِّري الغرب.....

..... وعامتهم من يقفون مع الحق، وأنّ كلمة (الإرهاب) أصبح القويُّ يفسِّرها كما يريد.

ومصطلح (الإرهاب) Terrorism في اللغات الأوروبية مصطلح حديث الاستعمال نسبياً إذا أُخذ على أنه (سعي للقتل والتدمير لإثارة الرُّعب العام من أجل تحقيق هدف سياسي). ويبدو أنّه بدأ يدخل إلى تلك اللغات وصفاً لأعمال العنف التي حدثت في عهد روبسبير في أعقاب الثورة الفرنسية.

لكن ظهور المصطلح شيء ووجود ما يدلُّ عليه شيء آخر، ذلك أنّ (الإرهاب) ذاته قديم في تاريخ البشرية.

ومن أمثلة ذلك ما ارتكبه المستعمرون الأوربيون؛ وبخاصة في قارتي أمريكا، من أعمال إرهابية فظيعة. أما مصطلح (الإرهاب) في اللغة العربية فمن الواضح أنّه لم يستعمل بالمعنى المشار إليه سابقاً إلاّ بعد أن شاع استعماله وصفاً للأعمال الشنيعة التي كانت ترتكبها العصابات الصهيونية القادمة - على العموم - من الغرب ضد أهل فلسطين؛ مثل مذبحة دير ياسين. فالإرهاب بمعنى Terrorism بضاعة غربية استوردها قلّة قليلة من المسلمين؛ اصطلاحاً لغوياً وممارسة عملية.

و (الإرهاب) بالمعنى المذكور أمر تدينه الشرائع السماوية، كما ترفضه القوانين الدولية، وتشمئز منه العقول السليمة. لكن يجب أن تشمل تلك الإدانة، وذلك الرفض، وهذا الاشمئزاز كل أنواع الإرهاب؛ سواء ارتكبه فرد أو جماعة أو حكومة. وهو ليس خاصاً بالمنتسبين إلى دين دون آخر، ولا إلى أُمّة دون أخرى. على أنّ هيمنة القويِّ في كلِّ المجالات - وبينها الإعلام - جعلت الأذهان تنصرف الآن إذا أطلقت كلمة (إرهاب) إلى المسلمين وحدهم صراحة حيناً وضمناً حيناً آخر. ويجب أيضاً عدم إدراج مقاومة المحتل ضمن (الإرهاب). ذلك أنّ مقاومة الاحتلال حقٌّ من حقوق الشعوب أباحته الأديان المنزلة من ربِّ العالمين، وأقرَّته القوانين التي اتَّفق عليها عقلاء البشر.

بل إنها واجب ديني ووطني. لكن للمرء أن يسأل - وهو يتأمّل ما يجري - ما نسبة الذين يراعون تعاليم الأديان السماوية الموجبة للعدل؛ وبخاصة بين قادة الدول ذات القوة المؤثّرة في مجريات أحداث العالم؟ وما نسبة الذين يرون الالتزام بما أقرّه عقلاء البشر من قوانين؟ ثم لو افترض مجرّد افتراض أنّ عدد الملتزمين بهذه القوانين كبير فما النتيجة الإيجابية لذلك والعالم كله يرى بوضوح أنّ دولة واحدة أصبحت تتحكَّم فيه بدرجة كبيرة، وبات على الجميع أن يخضع لإرادتها؛ رغبة في دعمها المشروط المُذِلِّ أو رهبة من بطشها العنيف المتغطرس؟ وكنت قد أشرت إلى هذا الأمر في أبيات من قصيدة عنوانها: (الشجن المر) تقول:

تملك الدنيا وتحكمها

بعصا الإذلال والدَّخَنِ

دولة من كيدها مُلئت

جنبات الأرض بالمحنِ

مجلس الأمن الذي زعموا

حيثما شاءت له يكنِ

وأمين من صنائعها

نصبته غير مؤتمنِ

وأشرت إليه أيضاً في أبيات من قصيدة باللغة الدارجة عنوانها (حميدانية):

كل العالم بيد أمريكا

تلعب به طاشْ وما طاشِ

ما غير تْعَيزِل وتْبَيزل

دون بريكْ ودون فْلاشِ

هذا تجدعْ عظمٍ بِفْمه

وذا من دونَه فشفاشِ

واللِّي يعاند إن رافت به

تحيله على المعاشِ

لو هي ما تطلع من شوفةْ

طغمة صهيون الأوباشِ

ذا دابَهْ من عهد كلينتون

واللِّي قبله به هشهاشِ

كلّه واحدْ من يقودَه

بوشٍ والا اللِّي ما باشِ

ومن المعلوم أنّ الإرهاب أنواع؛ سواء بالنسبة لمن يرتكبه أو لوسيلة ارتكابه فقد يكون مرتكبه فرداً أو جماعة أو دولة. وقد تكون وسيلته استخدام عنف وتدمير، أو محاصرة اقتصادية تجويعية. على أنّ أبشع صوره هو إرهاب الدولة. ذلك أنّ الدولة - بما تملكه من وسائل القوة - يفترض أن لا تكون قوّتها لبث الرُّعب في نفوس مواطنيها كما تفعل الأنظمة الديكتاتورة، أو لارتكاب إرهاب عدواني ضد شعوب أخرى. وإذا أقدمت دولة على حصار دولة أخرى بغير مبرّر شرعي فهذا نوع من الإرهاب بالتجويع. على أنّ المفترض شيء والواقع المشاهد شيء آخر.

ومما يتضح لكلِّ ذي عينين بصيرتين أنّ إرهاب الدولة يتجلَّى في دولتين هما وجهان لعملة واحدة؛ أمريكا وإسرائيل. لقد كتب برنارد لويس، المستشرق الصهيوني، الذي بات بمثابة المرشد العام لجماعة المتصهينين الذين يتولَّون مقاليد الأمور في أمريكا سلسلة مقالات حاول فيها إظهار وجوه شبه بين نشأة الدولة الأمريكية ونشأة الدولة الصهيونية في فلسطين، وذلك بهدف ترسيخ مشاعر الودِّ لدى الأمريكيين تجاه الكيان الصهيوني. لكنه لم يشر إلى مسألتين مهمَّتين:

الأولى: أنّ طلائع الأوروبيين المستعمرين لأمريكا الشمالية كانوا متصهينين فكراً. بل إنّ الحاخام المؤرخ لي ليفنجر ذكر أنهم كانوا أكثر يهودية من اليهود، ولذلك لم يكن غريباً أن سمَّوا بعض مستقرّاتهم وأبنائهم بأسماء عبرية، وسمَّوا البلاد التي احتلّوها إسرائيل الجديدة. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ عنوان أول أطروحة دكتوراه في جامعة هارفرد المشهورة، عام 1642م، كان العبرية هي اللغة الأُم، وأنّ الرئيس الأمريكي، جون آدمز، دعا - سنة 1818م - إلى إقامة حكومة يهودية مستقلّة في فلسطين.

الثانية: أنّ قيام دولة أمريكا قد ارتكبت فيه حرب إبادة بشعة ضد السكان الأصليين، الذين سُمُّوا بالهنود الحمر. وقيام الكيان الصهيوني في فلسطين ارتكبت فيه مجازر شنيعة ضد أهل البلاد الأصليين من الفلسطينيين لإرعابهم، ومن ثم اضطرارهم إلى النزوح عن وطنهم.

وتطابق النشأة الإجرامية الإرهابية للدولتين الأمريكية المتصهينة والعنصرية الصهيونية يجعل من غير المستغرب استمرار تطابق موقفيهما في الإجرام والعداوة لأُمّتنا؛ لا سيما للعرب والفلسطينيين. وكنت قد قلت في أبيات تعليقاً على أحد مؤتمرات القمّة العربية:

يا قادة العُرْب هلاّ استيقظت همم

منكم توالى على إغفائها حقب؟

ماذا يفيد لهاثٌ خلف ما رسمت

من زائف السِّلم رأس الغدر والذنب؟

وهل تظنون من يبدي نصائحه

عدلاً يحقِّق في الشكوى كما يجب؟

والآن ماذا عن إرهاب الدولتين الأمريكية والصهيونية؟

ذلك ما سيتحدَّث عن طرف منه في الحلقة القادمة إن شاء الله.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد