Al Jazirah NewsPaper Tuesday  09/09/2008 G Issue 13130
الثلاثاء 09 رمضان 1429   العدد  13130

إنَّ البعوضة تدمي مقلة الأسدِ..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

انشغلت عن الكتابة والمتابعة شهراً أو بعض شهر، وهكذا أنا في كل صيف، حين ألهو عن التفكير فيما يكتنف حيوات أمتنا العربية والإسلامية من منغِّصاتٍ تخترق الأجواء، أو تنبعث من الأهواء كدوامات الأعاصير،

وقدَرُ مشاهدنا العربية أنها مكشوفة لأي عارض، قابلة لأيِّ مؤثر، مستباحة لأي عابث لا يؤمن بيوم الحساب، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

وكنت في كل عام أقتسم الصيف مع الأهل، فلهم شطره الأفضل، ولي رسيسه المفضول، أُخبرهم في الزمان والمكان، وأرضى بالمكان دون الزمان. وبعد اجتياز محنة الصيف والأوبة من السفر، يبدأ الجهاد الأكبر، وهو التفكير فيما يعصف بالمشاهد السياسية والفكرية، وإن من شيء إلا وارد اللعب السياسية التي تحز إلى العظم، وحقٌ على كل مقتدر أن يسهم بما علمه الله، متوخياً النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، متخولاً التيسير في العزائم، وكل بحسبه إذ: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (وكلكم راع)، ولا سيما في عالم مغلوب على أمره، مفتون من ذوي قرباه (والفتنة أشد من القتل)، وهل أحد يشك فيما تعانيه الأمتين العربية والإسلامية من تحديات لا تطاق، واستجابات بلهاء، وجلد موجع للذات.

لقد راعني تهافت المبتدئين وغير المجربين وأنصاف المتعلمين على بؤر التوتر، وإيغالهم في تثوير المسكوت عنه، وأمام هذه الاحتياجات العزلي، ظننت كل الظن ألاَّ تلاقيا، ولكنني تذكرت قول المجنون:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما

يظنان كل الظن ألاَّ تلاقيا

ومجانين الشعراء أفضل من عقلائهم، ويكفي أنهم نيفوا على الأربعمائة مجنون كما في آخر معاجمهم، ولقد فاض شعرهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فعندما حمل صبيان الكوفة على مجنونها، وألجؤوه إلى مضيق، شدَّ عليهم بقصبة في يده، وهو يردد:

إذا تعسر أمر فانتظر فرجاً

فآخر الأمر أدناه إلى الفرج

فَلِمَ -والأكثرون منا يدعون العقل والحكمة وفصل الخطاب- لا نحسن الظن بالله ونرقب الفرج العاجل، ونتحسس مصائبنا لنأسُوا أو نواسي أو نتوجع على الأقل.

ومن المزري أن كثيراً من الكتبة يشبهون هؤلاء الصبية الممتلئين فضولاً والفارغين من الهمِّ: (يخلو من الهم أخلاهم من الفِطن) وفي الأحاديث والأمثال السائدة (اشتدي تنفرجي) (ولن يغلب عسر يسرين).

ومن خَنَع لليأس، وأحبطه تفاقم الأمور، مكَّن للداء من الاستشراء، ومن صبر وصابر ورابط، وأحسن الظن بالله فرَّج الله كربته. وكيف يقنط المؤمن من روح الله، وهو القريب المجيب؟ ومن سننه الحكيمة في خلقه مبدأ التمحيص والابتلاء {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}. هذه النفحات الإيمانية، تبلسم الجراح، وتشفي الغليل، وتفتح آفاق الآمال العريضة. ومما علق بالذاكرة من قراءات الطفولة الأولى مقالة رثائية ل(أحمد حسن الزيات) حين فجع بوحيدة رجاء عام 1936م وهو من أبرز أمراء البيان في عصره لقد أشار فيها إلى نعمتين مجهولتين: (الأمل) و(النسيان) فالأمل يهدهد المريض والسجين والمعدم. والنسيان يسلي الثكلى والمظلوم والميل من المرض، فالمؤمل يرقبُ الفرج، والناسي يعيش لحظته (ولك اللحظة التي أنت فيها).

ولقد كنت في أسفاري السياحية والعملية، متى استقر بي المقام في بلد أروح وأغدو على المكتبات، فهي وشاطئ البحر عندي صنوان، ومن باب التداعيات تذكرت قول شاعر الفسق والشعوبية الماجنة (أبي نواس) وهو ما يردده عشاق الحداثة والانقطاع:

(عاج الشقي على رسمٍ يسائله

وعجت أسأل عن خمَّارة البلد)

ولا سيما أن المكتبات في مصر والشام والمغرب تستبق المستجدات، وتحاول الظفر بالآراء المتطرفة، وتسويق كتب المفكرين الموغلين في تهميش السائد، وتسويد المهمش، ورواد المكتبات يعشقون هذا اللون من التأليف وهذا الصنف من المفكرين، والمشاهد القاتمة وسعت عدداً من المفكرين الذين يحلو لهم استفزاز المشاعر، وتوتير الأعصاب، والتلاعب بالأفكار بين الغربنة والأسلمة والعلمنة والعولمة.

والاعتراض والاستهجان لمن يسلك تلك المفازات حباً للشهرة والكسب، وبخاصة السرْديين الذين لا يملكون موهبةً ولا يتوفرون على علمٍ ولا تجربةٍ ولا ثقافةٍ ولا لغةٍ، أما أصحاب المواقف والمبادئ المتضلعون من المعارف، والضالعون في تبني الأفكار الشاذة، وتبئير الائتلاف والاختلاف، فهذا شأنهم، ومتى توفر أحدهم على معرفةٍ عميقةٍ وثقافةٍ شاملةٍ واستيعابٍ رقيقٍ ووعي عميقٍ، وقال ما قال عن إيمان وقناعةٍ، وجبَ أن يحاور باحترام، وأن يجادل بحكمة، وأن ينازل بعلم وآلية ومنهج متكافئ {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمبعوثه معاذ بن جبل: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب) مع تحري الاستفادة من تلك القدرات الاستثنائية والمعارف الغزيرة، أما الأكف الأعزل المتهوك، والذي يقول ما قالت حذام اندهاشاً وانبهاراً وتهالكاً فسقط متاع مصيره إلى مزبلة التاريخ. وها أكثر هذا الصنف من الكتبة المغثين، ومع أن حججهم أوهى من بيت العنكبوت ومعارفهم أهون من جناح البعوضة فإن البعوضة تدمي فعلة الأسد.

وتصوح المشاهد في انخناس قادة الفكر ورواد النهضة وزعماء الإصلاح وحراس الفضيلة وظهور من دونهم من المتفيهقين الذين يقولون عند الكشاف أمرهم ما قال سلفهم: (إنما كنا نخوض ونلعب) والطامة الكبرى فيمن لا يعرف نواقض الإيمان ولا مستويات الأحكام ولا قوة النصوص بين الاحتمال والقطع ثم لا يجد حرجاً من الخوض مع الخائضين، وإذا قيل له: (ليس هذا العش عشك فادرج) تبدى ك (الهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد) وقال: (نحن رجال وهم رجال).

لقد احتملنا على مضض (فرنسة) طه حسين، و(غربنة) هشام جعيط، و(وجودية) عبدالرحمن بدوي، (وواقعية) زكي نجيب محمود، و(علمية) حسن حنفي، و(ليبرالية) علي حرب، و(علمانية) محمد أركون وفؤاد زكريا و(تفكيكية) نصر حامد أبي زيد و(الحادية) عبدالله القصيمي وشبلي شميل، و(ماركسية) خليل عبدالكريم وعبدالله العروي، و(حِرْبادية) محمد حسنين هيكل، لتوفرهم على خلفيات معرفية وثقافية وتمكنهم من مناهج وخطط وآليات تؤسس لرؤيتهم ومشروعاتهم الفكرية والسياسية والقارئ لهم يقف على إضافات وتجليات فكرية اتَّبعت غير سبيل المؤمنين، أما المتكاثرون كالطفيليات المتعالون كالدخان فغثاء كغثاء السيل يُثيرون ولا يُثْرون، ويُصوِّبون ولا يُصيبُون، وكل شأنهم صغار في الذهاب وفي الإياب. وليس في أن تسع الكتب فيوض المذاهب وافتراق الأمة مِنْ بأسٍ، فتلك مضانها وهي مجال ذوي الاختصاص، ولكن المصْميات أن تطفو هذه النقائص على أنهر الصحف وعبر القنوات، وفي مواقع الشبكات العنكبوتية بشكل عشوائي وتزوير واضح، بحيث تصل إلى العامة والمبتدئين، الذين يظنون أن الناس أمة واحدة، والإشكالية أنَّ عِشق المخالفة أتى على كل شيء حتى يقول الناس: ماذا بقي من المقدس والثابت والقطعي، والراصدون للحراك الفكري عبر العصور لا يروعهم ما يسمعون وما يقرؤون من طعن في الدين واستخفاف بحملته وحماته، إذ هو من المعار والمعاد، لقد افترقت الأمة منذ الفتنة الكبرى، وعَرَفَ التاريخ الفكري ووسعت كتب الملل والنحل (الخوارج الدمويين و(المعتزلة) العقلانيين) و(الظاهريين) (النصوصيين و(المشبهة) الحشويين و(الجبرية) (المعطلين و(المرجئة) (المميعين و(الحرورية) المتسائلين و(الرافضة) الطاعنين، وما تفرع منها من مذاهب متناحرة يقتل بعضها بعضاً ويكفِّر بعضها بعضاً، كما واكب هذه الطوائف (سلفية) متشددة أو مستنيرة، تنادي بالعودة إلى ما كان عليه محمد وأصحابه، والعلماء الربانيون تصدوا لهذه الفرق بقوة ورباطة جأش واطمئنان وثقة بأن العاقبة للمتقين ولما يزل الإسلام في ثبات وشموخ وانتشار رغم الضربات الموجعة، ولما تزل الطائفة المنصورة في معزل عن الطوفان.

هذه المشاهد التي اعتدت رصدها والإنصات لحسيها لم تعد كما عهدها محكومة بعقد اجتماعي وبضابط أخلاقي، كما لم تكن متمثلة لآداب الحوار والمناظرة، قابلة للرد إلى الله والرسول، متفادية الصدام مشتغلة بالقضايا دون الأعيان متوخية التيسير والرفق محسِّنة الظن بمن تهيب أو تحفظ، مستشعرة قول الله لرسوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}

وبئست أمة لا تحترم علماءها ولا تَرُدُّ إلى مرجعيتها، لقد اندلقت أقتاب المعارف وأصبح كل شيء قابلاً للموضعة والتداول، ومع القبول بهذا القدر المحتوم، إلا أن هناك فقه أولويات وفقه فتن وفقه واقع لا يجوز الخلو منها، وإذ لا نقطع بالعصمة لغير المرسلين فيما أرسلوا به لا نسمو بأحد فوق المساءلة والنقد، فإننا نود أن نتصور الأشياء قبل الحكم عليها، وأن نتوفر على متطلبات الحوار ومحققات حضارة الانتماء قبل الخوض في القضايا المصيرية وأن نعرف أقدار الناس من علماء ومسؤولين وقادة فكر قبل الولوغ في الأعراض.

ومن هاب الرجال تهيبوه

ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد