Al Jazirah NewsPaper Tuesday  16/09/2008 G Issue 13137
الثلاثاء 16 رمضان 1429   العدد  13137
طفولة ملك ومثالية أب رائد
بقلم: عبدالرحمن بن سليمان الرويشد

لم تكن الطفولة يوماً بمعزل عن اكتمال الرشد. فالموهبة والعبقرية ثمرة النشأة.. لذا حرص دارسو سير الصفوة للأنبياء، والقادة، والمفكرين على تناول تفاصيل نشأة من يكتبون سير حياتهم الخالدة.

ومن هنا كان علينا - ونحن نعيش ذكرى يومنا الوطني - يوم الوحدة والإنجاز، أن نعود بالذاكرة لنتعرف على ملامح مضيئة عن نشأة الأب الأكبر، وطفولته السعيدة.. مليكنا المحبوب (عبدالله بن عبدالعزيز.. خادم الحرمين الشريفين).

فمن حق الأبناء والأحفاد الذين يعيشون إنجازات عهده الميمون أن يحصلوا على رؤية تاريخية موثقة، تتحدث عن طفولته السعيدة.. فعندما نرصد معالم شخصية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله منذ بواكير شبابه، نجد أن البيئة التي نشأ فيها كانت ذات أثر كبير في تكوين شخصيته. وكانت النموذج؛ بما تحمله من معالم الخير والعدل والحق.

ولهذا يشعر المواطن في هذا البلد بالكثير من الاعتزاز عندما يوصف هذا القائد بالصفات الحميدة، من خلال المشاهدة أو التعرف على الخلفية التاريخية.

ولد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في قصر والده بالرياض في ظروف تبعث على التفاؤل، فحين أطل هذا المولود كان الوالد العظيم قد فرغ للتو من إنجاز جزء مهم من معاركه التوحيدية، وكان يمارس مشروعاً وحدوياً لكل الأقاليم.

فهو البطل الذي استعاد ملك آل سعود بعد أن تغيب حكمهم عن الساحة أحد عشر عاما في مدار خسوف كامل!! وأنهى الاستعمار الغربي في معظم البلاد المد العربي، وقزّمه.. وكان عبدالعزيز شديد الاتصال بأمته، عظيم الاعتداد بدينه وعروبته.

أما والدة ذلك المولود الجديد (خادم الحرمين الشريفين) فهي الأميرة الجليلة (فهدة بنت العاصي ابن شريم) التي يعود لها الفضل إلى جانب زوجها في تربية ابنها.

التحق والدها العاصي بن شريم بالملك عبدالعزيز. وشهد عدداً من الوقعات معه، ثم بقي إلى جوار الملك عبدالعزيز في الرياض، حتى تقدمت به السن. فانتقل إلى مقر عربانه، وعاش هناك حتى توفي.

وقد تزوج الملك عبدالعزيز بابنته الأميرة فهدة، بعد أن ترملت عن زوجها الأول الأمير (سعود بن رشيد) حاكم حائل سابقاً.

وكانت تلك الزيجة تعويضاً إلهياً لتلك المرأة الصالحة، فقد احتلت مكانة سامية لما تتمتع به من صفات حميدة، وأخلاق فاضلة، ولما لبيتها من نسب عريق، وصيت ذائع.

***

وللاسم (العلم) الذي سمي به خادم الحرمين الشريفين الملك (عبدالله) مدلولات وخصائص، عرض لها الدارسون في المعاجم القديمة، وتناولها الباحثون الأجانب..

واسم (عبدالله) من أقدم الأسماء عند العرب، وهو اسم محبب تسمى به المسلمون عرباً وعجماً، بل إن شهرته جعلت أصحاب الأديان الأخرى تتسمى به، وكان موجوداً في الجاهلية، ثم شاع في صدر دولة بني أمية، ثم كثر شيوعه بين المسلمين. فهو علم تاريخي، سمي به قادة ومشاهير على مر العصور، وسمي به أكثر من علم مشهور في الأسرة السعودية في أدوارها.

وقد أُحصي عدد من تسمى باسم (عبدالله) من العائلة السعودية، منذ قيام الدولة السعودية الأولى وحتى اليوم، فزاد عددهم عن المائتي شخص!!

نشأ خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في قصر الملك عبدالعزيز في الرياض، المعروف بقصر الديرة، وقد بني ذلك القصر مع القصور المرتبطة به، وفق التخطيط المعماري العربي الشائع.. يتجلى ذلك في أسواره وأبراجه العالية القائمة على بواباته، وعلى أجزاء متساوية من أبعاده، كما يتميز بالممرات الضيقة والمحمولة، الموصلة بين أنحائه ويكوّن مع وحداته السكنية المرتبطة به قرية مستقلة ذات طابقين، وأفنية مكشوفة تلتف حولها الغرف، عبر ممرات أرضية وعلوية، وقد صنعت أبوابه ونوافذه من المواد المحلية، وفي داخله قاعات وغرف. تزيد مساحته أكثر من (10000م2). ويضم الدوائر الرسمية والمخازن، وبه أجنحة خاصة للضيافة ومخازن للكتب وغرف للمستشارين والكتبة. وفي أقصى ناحيته الشمالية الغربية في الجزء العلوي مدرسة الأبناء، يدرس فيها أبناء الملك عبدالعزيز والأطفال الآخرون من سكان القصر.. ويرتبط ذلك القصر بعدد من القصور الفخمة.

وتطل ناحية القصر الشمالية، على ساحة كبرى للبلد تعرف ب(الصفاة) من الناحية الغربية، والبراحة من الناحية الشرقية، وهي عبارة عن ميدان فسيح يتسع للقادمين للبلاد للتسوق، أو للسلام على الملك، كما يطل على ذلك الميدان المجلس الخاص للملك عبدالعزيز، وبعض الدوائر الرسمية، وجزءا من مقر سكنى والدة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، الأميرة فهدة.

***

وعندما بلغ ذلك المولود سن الدراسة ألحقه والده بإخوته في مدرسة القصر، التي تضم عدداً منهم ومن غيرهم ممن هم في مثل سنه أو أكبر، أو أصغر، لتلقي الدروس الأولية.. وكان معه من إخوته الأمراء من يكبره آنذاك وهم: (سعد ومنصور وفهد ومن يماثله في السن: الأمير بندر والأمير مساعد والأمير عبدالمحسن.. ثم الأمير مشعل والأمير سلطان، وهما الأصغر سناً في ذلك الجيل.. كانت تلك الكوكبة من أطفال الملك عبدالعزيز من مواليد سنوات مشارفة عبدالعزيز على إنجاز مشروعه الوحدوي الفكري والجغرافي.

وقد أعد لأولئك الأطفال مدرسة أسست منذ أن أعد ذلك القصر عام 1327هـ- 1909م حجرات متواضعة من حيث البناء، لكنها واسعة ونظيفة، أرضها مفروشة بالمداد الأحسائي، جيدة التهوية والإضاءة، تقع في الدور الثاني من القصر، وهي مدرسة تختلف قليلاً عن الكتاتيب الشعبية في الرياض، في ذلك الحين.

وكان الملك عبدالعزيز يوليها اهتماماً خاصاً، فيختار لها المعلمين الأكفاء والمدرسين من ذوي الثقافة الدينية والعربية.

وعندما التحق خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في طفولته بتلك المدرسة، كان يتولى التدريس فيها مربون أفاضل.. منهم الأستاذ (محمد بن عبدالله السناري) العماني الأصل، المقيم في مكة المكرمة سابقاً، والأستاذ أحمد العربي، الأديب المعروف.

وقد بلغ من اهتمام الملك بتلك المدرسة انه كان إذا خرج إلى مخيماته البرية للنزهة السنوية أو للقنص يأمر بأن يقام إلى جانب مخيمه معسكر مدرسي، يضم مخيماً لمدرسة الأمراء ومعلميهم، وتستمر الدراسة طيلة أيام إقامته في المخيم.. وحتى عندما يرحل إلى الحجاز لقيادة الحجيج أو العمرة أو لأي شأن آخر يستدعي إقامة طويلة، كان يأمر بإنشاء قسم في قصره بالسقاف ليكون مقراً لتلك المدرسة ليواصل الأمراء تعليمهم فيها طيلة إقامته!!

***

تشكلت ثقافة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في طفولته المبكرة من حصيلته الدراسية التي تلقاها في مدرسة الأمراء، فقد حاز شهادتها العليا المتاحة آنذاك، قبل أن تبلغ تلك المدرسة مرحلة تطورها الدراسي فيما بعد، وهي تسير وفق نظام أكثر رقياً من الكتاتيب القديمة الشائعة آنذاك للعملية التربوية للأطفال في سنهم المبكرة.. وكانت تهتم بالثقافة الدينية ودروس اللغة العربية، والحساب، وحفظ القرآن الكريم، وتجويده.

وقد اعتادت تلك المدرسة أن تقيم احتفالاً كبيراً بمناسبة ختم أحد الأنجال للقرآن الكريم.. ومن تلك الاحتفالات الاحتفال البهيج الذي أعده الملك عبدالعزيز احتفاءً بختم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في طفولته المبكرة للقرآن الكريم، وكان عمره إذ ذاك لا يتجاوز الثالثة عشرة سنة، واشتمل الحفل في يومه الأول على الإعلان عن تلك المناسبة، فانتشر الخبر في الرياض، وطلب الملك مشاركة طلاب الكتاتيب في سائر أنحاء الرياض في الحفل.

وفي اليوم الثالث، أعدت مائدة كبرى في فناء القصر في الصباح الباكر حضرها العلماء والأعيان وهيئة التدريس ومدرسو الكتاتيب الأخرى وكبار الأهالي، أعقبتها عرضة كبرى في (البراحة) شارك فيها الملك عبدالعزيز وأنجاله من الكبار والصغار والأتباع والأهالي احتفاءً بالمناسبة.. تلى ذلك الإذن للصغار بامتطاء صهوات الجياد وهم يلبسون أجمل الملابس، ويحملون السيوف، ويتمنطقون الخناجر الذهبية على جيادهم ليتجولوا في البلدة، مع بقية أطفال المدارس الأخرى.

كان هذا التقليد سائداً في جميع أدوار تلك المدرسة منذ تأسيسها، إلى أن أغلقت أبوابها في آخر حياة الملك عبدالعزيز، لينضم طلابها من الجيل الثالث أو الرابع إلى (معهد الأنجال) الذي أسسه ولي العهد الأمير سعود (الملك) وحينها استأذن من والده أن يسمح له بضم طلاب مدرسة الأنجال من إخوته إلى المعهد الذي أسسه في الناصرية.

***

ومن أهم مصادر ثقافة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في نشأته وطفولته المبكرة ملازمته لمجالس والده في القصر، فكان لا يتخلف عن تلك الجلسات، لاسيما وأن سكنه مع والدته لا يبعد كثيراً عن مجلس والده العام.

فكان يحضر الدروس اليومية التي يلقيها أحد الفقهاء ويعلق عليها الملك، وربما شارك في المناقشة أحد العلماء، فكان ذلك المجلس مدرسة يشاهد فيها والده ورؤساء دوائره، وهو يدير شؤون مملكته، ويتحدث في مختلف القضايا.

وكان في ذلك السن من باكورة شبابه كثير الاختلاط بمستشاري والده، الذين كانوا على جانب كبير من العلم والثقافة فكان يناقشهم ويستعير منهم الكتب ويحصل على بعض الصحف التي ترد للديوان ليطلع عليها. وكان من حسن طالع هذا الشباب، أنه أدرك في طفولته المبكرة الكثير من كبار أسرته وأعمامه وعماته ورفقاء والده في السلاح من الرواد الأوائل.. فكان يصغي إلى أحاديثهم، ويستمع إلى ما شاهدوه من أحداث وعاشوه من حياة.

كما كان يزور مع والده وأحياناً بمفرده كبار المسنات من نساء ذلك البيت ممن اشتهرن بالعلم والفضل، وأدركن الكثير من سالف الأيام قبل إعادة الملك عبدالعزيز للحكم، كالأميرة (الجوهرة بنت فيصل) والأميرة (طرفة بنت فيصل) والأميرة (سارة بنت عبدالله بن فيصل) وعمته الأميرة (نورة بنت عبدالرحمن) ونساء شهيرات أخريات من العائلة.

كما كان لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، وهو في ذلك السن المبكر ميل فطري للمطالعة والقراءة، واهتمام خاص بالأدب العربي.. وقد اكتشف هذه الميول أحد المثقفين الكبار في ديوان والده وهو الشيخ رشدي ملحس، سكرتير الشعبة السياسية. فكان يزود الأمير بالكثير من الصحف والمجلات التي ترد إلى الديوان، ويقترح عليه قراءة بعض الكتب.

وصف ذلك الشاب ممن أدركه، وشاهد ملامح النجابة بادية على محياه، بأنه فارس يحمل روح الإسلام الملتحمة بالعروبة، متحمساً للدين والوطن ولشرف بيته.. ولا غرابة في ذلك، فقد عاش إلى جانب والده الذي حمل السلاح، وخاض المعارك من أجل لم شمل البلاد وتوحيدها.. فكان لذلك الشاب القسط الأوفر من الاهتمام بالفروسية والشأن العسكري، الذي امتزج بتكوينه منذ سن مبكرة، نتيجة تربيته الأسرية التي عاشها، وهو يخطو خطواته الأولى.

وكان يرى في الفروسية النبل والسمو بالنفس والتسامح. وكان يعلو صهوة جواده دون معين، ويمتلك عنان فرسه وهو إذ ذاك حدث، لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره.

شوهد في شبابه يرتدي زي الفرسان، ويظهر بمظهرهم المتميز، من حيث رشاقة الحركة وإرسال جدائل شعره المتدلية على صدره. وكان يمتطي صهوة جواده في مناسبات السباق، حاسر الرأس لتبدو خصلات شعره تتطاير مع انطلاقة فرسه.. وكان في مناسبات أخرى، يستصحب رمحاً طويلاً خفيفاً يرسله في الهواء عندما يشتد بحصانه الجري ملوحاً بذلك الرمح تجاه الحضور في مقر (لزز الخيل) قرب سور الرياض الشرقي القديم، وعندما يكون بمحاذاة الجميع، وبالقرب من مجلس والده يطلق صرخة الفرسان، ويقذف برمحه إلى الأمام، وحصانه في قمة انطلاقته ليتلقف الرمح قبل أن يهوي إلى الأرض، فيضج الحضور بالتكبير، وإظهار مشاعر الاستحسان لفروسية ذلك الشاب. ولا عجب، فوالده الملك عبدالعزيز شيخ الفرسان، وجده لأمه العاصي بن شريم، فارس مشهور، وطالما شهد الاثنان غارات الفرسان وتنافسهم في الميدان.

انعكست صورة تلك النشأة الصالحة لطفولة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، على مجمل سيرته وتعاملاته، التي امتدت منذ ذلك العهد في صور ترعاها العواطف النبيلة، التي تتجلى في مختلف مراحل نموه، بما فيها شأن الطفولة الذي تنامى في عهده.. فقد حظيت منه بالكثير من الرعاية، وأنشئت لها الكثير من المؤسسات التربوية والصحية، والتعليمية، والتدريبية.

وكما كان الملك عبدالله يفرح بلقاء الكبار من أبناء شعبه، نراه يجد بهجة موازية بلقاء الصغار من مواطنيه، ولا يجد غضاضة أن يقبل أولئك الأطفال، وأن يحمل البعض منهم وكأنهم أطفاله. وأن يستفسر عن معاناة بعضهم، ويمازحهم، ويستمع إلى أقوالهم البريئة.. منصتاً كأب رحيم ولقد وجد في هذه المواقف بعض الإخوة من العرب والمسلمين خارج بلاده. ما دفع البعض منهم إلى طلب مد يد العون في أن يحظى مرضاهم الأطفال، أو المعاقين منهم بالعلاج والرعاية في بلاده.. فلم يخيب ظنهم.

والملك عبدالله أب عاش، وهو شامخ القامة، مكتمل الرجولة، يعمر قلبه حب دينه، ووطنه، وأسرته الكبيرة من شعبه.. يتطلع الجميع إليه فيغدق عليهم حبه، ويمد أسرته بإرشاداته، ولم تمنعه عاطفة الحب الجياشة أن يوجههم نحو الاعتماد على أنفسهم، وأن يتحدث معهم بصراحة عن الظروف التاريخية الصعبة التي عاش جزءاً منها، وعاشها آباؤه وأجداده..وأن عليهم أن يكونوا مستعدين لمواجهة ذلك. ورأى من حوله أنه ربما أوحى للكثير منهم بأنهم أحرار في تحديد مستقبلهم.. لكن لن يتوانى عن تذكيرهم بأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.. وأن الأهداف لا تتحقق ما لم تدعم بالإيمان القوي والعلم.

والمعروف أن المبادئ والسياسات والنصائح التي يوجهها ذلك القائد بحكم نشأته وتربيته لأبنائه، كان يوجهها لأبناء شعبه، عائلته الكبيرة في مملكته، وفقه الله.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد