Al Jazirah NewsPaper Monday  22/09/2008 G Issue 13143
الأثنين 22 رمضان 1429   العدد  13143

(فادي) الحبيب! رحم الله أباك... (2/2)
د. زهير الأيوبي

 

كان (إبراهيم الذهبي) عليه رحمات الله يجيد بل يحلّق في تقليد بعض الشخصيات (بالصوت والصورة) وإلى درجة تبهر وتأخذ بإعجاب المستمع أو المتابع!

كان يجيد تقليد (الملك حسين) ملك الأردن يرحمه الله ويجيد كذلك تقليد السيد (وصفي التل) رئيس وزراء الأردن السابق عليه رحمة الله، ويجيد تقليد السيد (صلاح أبوزيد) المذيع الأردني الأول والذي صار فيما بعد وزيراً للإعلام في الأردن.. كان يقلد أيضا زميله الدكتور (عمر الخطيب) عليه رحمة الله، ويجيد كذلك تقليد زميله الأستاذ (ماجد الشبل) ولعّل (ماجد) لا يعرف ذلك، وكان يقلد زميله أستاذ (جورج مرقة) وكان يقلد السيد (أحمد بن حامد) وزير الإعلام الأسبق في دولة (الإمارات العربية المتحدة)، فقد عمل (إبراهيم)مع زميله الدكتور عمر الخطيب عليهما رحمات الله معارين لإذاعة وتلفزيون (أبو ظبي) عدة سنوات قبل مقدمها إلى المملكة.. وأظن أنه كان يقلدني مع من كان يقلدهم رحمه الله وأسكنه أعالي فراديس لجنة.

***

ولد (إبراهيم الذهبي) عليه رحمات الله في عام ألف وتسع مائة وستة وثلاثين أو في العام الذي بعده، وحينما جاء إلى المملكة كان قد تخطى الخامسة والثلاثين من عمره واقترب من الأربعين، وكانت قسمات وجهه وخاصة حينما يكون جادا وحجم حاجبيه، وميل جسمه إلى الامتلاء يعطيه من العمر وخاصة لمن لا يعرفه يعطيه زيادة تصل إلى خمس عشرة سنة، وكنا نمزح معه حينما يدور الحديث عن العمر، ونصر على عمره الذي يدل عليه مظهره، ويصر هو على عمره الحقيقي، وكثيراً ما تجادلنا في هذه المسألة، وارتفعت أصواتنا؛ (إبراهيم) يصر على أنه في السابعة والثلاثين من عمره، ونحن جميعا نصر على أنه قد تجاوز الخمسين!

أذكر أننا كنا مجموعة من الزملاء قد انتهينا من الغداء في احد فنادق الرياض وجلسنا بعد ذلك للاستراحة والسمر وشرب القهوة والشاي في إحدى ردهات الفندق.. كنا (إبراهيم الذهبي) عليه رحمة الله وماجد الشبل ومنذر النفوري عليه رحمة الله والدكتور أحمد عبدالحليم الروسان والداعي لكم بطول العمر والبقاء، وآخرون.. وتناولنا في أثناء الحديث موضوع عمر إبراهيم الذهبي وأبدى وجهة نظره في عمره، وأبدينا نحن وجهة نظرنا واحتدم النقاش وطال الجدال وارتفعت الأصوات إلى درجة تنبه فيها بعض الجالسين الآخرين في جانب آخر من الردهة التي كنا نجلس فيها، فقد كان على مقربة منا رجل يجلس مع زوجته، وكأنه لاحظ الموضوع الذي يدور نقاشنا حولهن وأبدى استعداده لأن يتدخل في ذلك النقاش!

طلبنا إليه أن يتفضل بالمجيء إلينا لدقائق، فلبى دعوتنا ورغبتنا أن يعرفنا بنفسه فقال: انه يعمل مستشارا قانونيا في إحدى الوزارات وأنه من إخواننا المصريين، وكان يبدو عليه أنه في الستين من عمره، فقلنا له: لقد جئت في وقتك. فقال: كيف؟ قلنا له: أنت مصري وليس بيننا مصري، فأنت إذن إنسان محايد. وبعد ذلك فأنت مستشار قانوني، وبإمكانك أن تفصل وتحكم بيننا في هذه القضية بكل اقتدار.. ثم قلنا: ما رأيك (يا إبراهيم)؟ فقال: موافق كل الموافقة!

فقلنا: نرجو منك يا حضرة المستشار أن تقدر عمر هذا الرجل الذي يجلس أمامك.

فتبسم (إبراهيم الذهبي) عليه رحمة الله والرجل يحدّق في وجهه ويجبل النظر في قسماته وإبراهيم يكرر الابتسامات ويصعّدها!

وبعد التحديق والتصعيد والتكرار والإحالة قال المستشار: لا.. لا.. إنه ليس كبيراً.. أظن أن عمره - وأرجو له الصحة والسعادة الدائمين (يتراوح بين الستين والخمسة والستين)!!! فانفجرنا بالضحك... وضحكنا.. وضحكنا.. وأما (إبراهيم الذهبي) عليه رحمة الله فقد قام من مقامه وقال بأعلى صوته: هذا ظلم.. هذا زور.. هذا افتراء.. يا حضرة المستشار لابد من مراجعة كل استشاراتك القانونية التي قدمتها في هذا البلد.. ثم ضحك (إبراهيم) وضحك المستشار وضحكنا..

وفي مناسبة أخرى في (جدة).. كنا (ماجد الشبل) وإبراهيم الذهبي وأنا وعدد آخر من الزملاء جالسين في استراحة فندق (آسيا) وكان صاحب الفندق رجلاً فاضلاً من آل (العمودي) لا أذكر الآن اسمه الأول.. وكان يعرفني ويعرف ماجد من خلال التلفزيون مرّ بنا وهو يتوجه إلى مكتبه فسلم علينا وسألنا عن أحوالنا ثم انصرف وما هي إلا فترة قصيرة حتى دخل أحدنا في قصة عمر (ابي نضال) إبراهيم الذهبي، وأصر إبراهيم على التمسك برأيه فقد كان يقول ان عمره في ذلك الوقت خمس وأربعون سنة وأصر باقي الحاضرين على ان عمره أكثر بكثير.. وقال إبراهيم وقد استعد لذلك هذه المرة: هذا جواز سفري أمامكم، فانظروا عمري الذي فيه فأجابه أحدناك ما أظن أنه يُعتد في جيلك بالاعمار التي تسجلها الأحوال المدينة فقد كانوا يعتمدون على (التقدير) في غثبات الأعمار، ولا يدققون في ذلك وكم من طفل كتبوه شابا وكم من شاب مكتهل أثبتوه طفلا ولأسباب مختلفة واحتدم النقاش واشتد الجدال وارتفعت الاصوات وإذا بصاحب الفندق يهرول نحونا ويقول: خير.. خير إن شاء الله.. ما الأمر؟ قلنا له: نحن مختلفون في قضية، نرجو منك أن تجد لنا حلاً لها. قال: أنا تحت أمركم أخبروني ما هي؟

قلنا له: من تقدر عمر هذا الأخ الحبيب الذي عرّفناك عليه قبل قليل.

قال الأستاذ: إبراهيم الذهبي أليس كذلك؟

وقال إبراهيم: نعم.. نعم..

فنظر إليه وحدّق في وجهه.. وتأمل قسماته وإبراهيم عليه رحمات الله يعطيه من ابتساماته الشيء الكثير.. فقال: إن إبراهيم ليس كبيراً! إنه من جيلي ومن سني.. قلنا له: لا بأس ولكن قل لنا ومعذرة ما سنك؟

قال: سبعة وستون عاماً!

فنهض إبراهيم من على كرسيّه وقال: كلنا نسمع أو نعرف أناساً عندهم (عمى ألوان) أليس كذلك؟

قلنا: نعم

قال: لكني لاحظت أن أكثر الناس في هذا البلد عندهم (عمى أعمار)!

وضحك (العمودي) وضحك إبراهيم وضحكنا.. وضحكنا.. وضحكنا..

***

من العادات الجميلة التي توقفت مع الأسف، بعد انتقالي من البيت أو الشقة التي كنت أسكنها في شارع الملك فيصل (الوزير) لأكثر من ربع قرن بعد انتقالي واخواني إلى السكن في بيوت في مناطق الرياض وأطرافها المختلفة انه كان يشرفني بالزيارة قبل صلاة الجمعة من كل أسبوع عدد من الاخوة، ثم ننطلق من بيتي سوية للصلاة التي غالبا ما تكون في جامع (المربع) لنسعد بسماع خطبة الجمعة التي كان يلقيها فضيلة الشيخ عبدالله بن قعود وأداء الصلاة بعد ذلك يم ننطلق بعدها إلى استراحة نمضيها في فندق (زهرة الشرق) نتسامر ونتحدث ونتذاكر في أمورنا المختلفة مدة ساعة ونصف تقريباً، ننطلق بعدها كل واحد منا إلى بيته، وقد استمر هذا اللقاء الأسبوعي أكثر من خمسة عشر عاماً، ولم يتوقف إلا بعد أن استقلت من وزارة الإعلام وتوجهت إلى (لندن) لأرأس تحرير مجلة (المسلمون) في عام ألف وتسع مائة وثمانين الموافق عام ألف وأربع مائة.. وكان أبرز رواد تلك الجلسة أو ذلك اللقاء الأسبوعي الأخ الكبير الأستاذ ماجد الشبل شفاه الله وعافاه وأجزل له المثوبة، والأخ الأستاذ منذر النفوري رحمه الله رحمة واسعة والأخ الدكتور أحمد عبدالحليم الروسان، وعديلي الأخ حيدر آل رشي والاخوة الأعزاء (عدنان الدبسي) و(ميسر سهيل) و(محمد عبدالوهاب القادري) وانضم إليها كذلك فترة وجودهم في المملكة الأخ والخال عصمت شيخو والاخ كمال النبي والأخ جودت مرقة والأخ أحمد قاسم الردايدة.. وكان من أبرز أعمدتها ومحاورها الأخ إبراهيم الذهبي عليه رحمات الله فقد ظل مثابراً على حضور هذا اللقاء الأسبوعي المتجدد طيلة السنوات الثماني الأخيرة منه.

وكان أبني الأكبر الدكتور أحمد المجد - الآن - يشاركنا هذا الاجتماع منذ بلوغه السادسة من العمر وإلى ان سافرنا إلى (لندن) وكان قد بلغ التاسعة من عمره، وكان مؤدباً مع ضيوفي ويحرص على احترامهم وخدمتهم، وكانوا يحرصون على الحوار والتلطف والمزاح معه في بعض الأحيان.. وفي تلك الفترة رزق إبراهيم الذهبي بطفله الرابع وهو ابنه الاصغر فسماه (مجداً) تيمنا باسم ابني احمد المجد بارك لله في (مجد) واخوانه الأعزاء (نضال) وفادي و(حسين) وأطال الله في عمر أمهم الكريمة (أم نضال) وجعلهم خير خلف لخير سلف.

***

كانت مناسبة الحج السنوية فرصة لالتقاء أبرز مذيعي (الرياض) بزملائهم من مذيعي جدة، وكذلك للالتقاء بالمذيعين القادمين من الدول العربية والإسلامية وخاصة في الأسبوعين الأولين من شهر ذي الحجة، هذه الفترة التي يكون فيها يوم التروية ويوم عرفة وأيام عيد الأضحى التي هي يوم النحر، وأيام التشريق الثلاثة...

وكان يقود التغطية الإعلامية الحية للمناسبات الرئيسية في هذه الفترة وخاصة صلاة الظهر والعصر جمعا وقصرا والخطبة في مسجد (نمرة) يوم عرفة، وكذلك نفرة الحجاج من عرفة إلى مزدلفة ولسنوات عديدة الزميل الدكتور (بدر كريم)، وقد قمت بقيادة تلك التغطية الإعلامية على مدى سنتين..

وكانت تلك الفترة من الأوقات التي لا تنسى آثارها الروحية والعملية الميدانية والتواصلية الاجتماعية الإسلامية، فقد ذكرت أنها فترة تجمع لمذيعين نعرفهم أو نعرف أكثرهم على الأقل من أصقاع العالم العربي والإسلامي.

وقد كانت تحصل في بعض الأحيان من النوادر والحكايات والقصص التي لا ننساها على مرّ الأيام.

***

لقد مات (إبراهيم الذهبي) عليه رحمة الله بل انتزع من بين قلوب محبيه وأصدقائه وزملائه الكثيرين بصورة مفاجئة، وهو بكامل صحته وعافيته ولما يتجاوز الخامسة والخمسين من عمره!!

وتركت وفاته عليه رحمة الله فراغاً كبيراً لدى أهله ومحبيه الكثيرين لكن ما نرجو الله له من حسن الخاتمة ثقة بالله عز وجل وأن ما عند الله له هو خير مما عندنا بإذن الله هو الشيء الوحيد الذي ينسينا وفاته المفاجئة، وموته الخاطف عليه رحمات الله.

لقد كان إبراهيم الذهبي يدخن.. كان يدخن بصورة شرسة إن صح هذا التعبير وربما أحرق واستنشق في نهاره وليلته، أكثر من خمس علب من السجائر وربما كان للتدخين الكثير هذا أثره في وفاته عليه رحمة الله وهو في تلك السن المبكرة!!

وأتذكر مع الأسف والدي عليه رحمات الله الذي مات بصورة مفاجئة أيضا دون الخامسة والخمسين من العمر وكان في كامل صحته وعافيته لا يشكو من شيء!! كان عليه رحمة الله يدخن كثيراً!! وأسمح لنفسي أن أتوقف عند هذا الموضوع، موضوع التدخين وقفة غير قصيرة.. فقد دخنت أنا شخصيا أكثر من ربع قرن في حياتي.. وقد بدأت التدخين تقليداً لما رأيته من والدي عليه رحمة الله! وكان لي زميل قريب بل أخ حبيب بيني وبينه ثلاثة أشهر أكبره بها في العمر هو الدكتور مروان شيخو عليه رحمات الله وكان واحدا من الخطباء المشهورين المميزين كان يخطب الجمعة في جامع الشيخ محي الدين في حي الصالحية بمدينة دمشق ومات عليه رحمات الله وهو عضو في مجلس الشعب (النواب) السوري، وقد عشت أنا وإياه رفيقين حبيبين عدداً من السنوات وقد كنا زملاء صف واحد طيلة المرحلة الثانوية من الدراسة نجلس في مقعد دراسي واحد، وكذلك في عدد من سنوات الجامعة ونحن ندرس في كلية الطب ثم كلية الحقوق ومروان هذا فوق ذلك فهو ابن عم أمي عليها رحمة الله.. كان أبوه عليه رحمة الله يدخن كذلك مثل أبي، ولكنه عاش إلى ما فوق الثمانين بسنوات، وكان يدخن نوعا من (التبغ) يسمى (خصوصي للجيش) وكان يشتري مؤونته التي تكفيه لمدة شهر ويُخزنها في مكان خاص من بيته إلى أن تنتهي فيشتري ما يكفيه لشهر آخر.

كنت (ومروان) عليه رحمة الله في الرابعة عشرة من العمر، وقد تعرفنا على المكان الذي يخزن فيه والده علب سجائره.. وفي ذات يوم أخذنا بعض السجائر خلسة من مكانها وجمعنا بعضها إلى بعض بمادة لاصقة حتى تشكل لدينا سيجارة طويلة مؤلفة من ثلاث أو أربع سجائر وبدأنا ندخنها على سبيل اللعب والتسلية بالتناوب وبعيدا عن أعين الناس، فعلنا ذلك أكثر من مرة إلى أن تعودنا على هذه اللعبة أو هذه التسلية.. وقد تعودت على أن ألهو بالتدخين أو أن أتسلى، فلا أرفض مثلا سيجارة يقدمها لي صديق في جلسة، أو سمير في سهرة.. غير أني طيلة الخمسة والعشرين عاما التي دخنت فيها كنت (أنفخ) الدخان كما يقولون ولا استنشقه إلى صدري، وكان عدد السجائر التي (أنفخها) في اليوم والليلة لا يزيد على خمس سجائر، وليت كل الذين يدخنون من الرجال والنساء يفعلون كما كنت أفعل كماً وكيفاً.. وكنت اشتاق إلى السيجارة خاصة في أيام السفر وحينما أكون لوحدي.. ولا أفضل نوعا محددا من الدخان، بل ان السيجارة المفضلة لدي هي السيجارة التي تحتويها علبة مغلفة بغلاف ذهبي مميز أو غلاف أنيق ملفت للنظر ولذلك فقد كنت أميل إلى سجائر (الباكستون) و(سالم) و(L.M) المعطرة بالنعناع وال(more) المعطرة بالنعناع أيضا! وكنت لا أحمل في جيبي علبة سجائر إلى أن جاء عام ألف وتسع مائة وثمانين ميلادية، فإذا بي أرغب بأن أحمل في جيبي علبة سجائر وقد قمت بذلك فعلا، وفي يوم من الأيام كنت فيه أتوجه إلى أحد استوديوهات إذاعة (الرياض) لأسجل عددا من حلقات برنامجي اليومي تلك الأيام (يا أخي المسلم) وكان برنامجا توجيهيا هادفا لا تزيد مدة الحلقة الواحدة منه عن ثلاث أو أربع دقائق، وكان يتناوب على كتابته كبار المفكرين والعلماء والشعراء وأساتذة الجامعة والباحثين من الرجال والنساء من المملكة والعالم العربي، وكان بين نصوص الحلقات التي سأقوم بتسجيلها نص كلمة توجيهية مميزة عن التدخين ومضاره وآثاره السلبية، وردتني من فضيلة الشيخ إبراهيم سرسيق - أسعد الله أيامه وكان في حينها هو محرر الصفحة الإسلامية في جريدة (المدينة) الغراء فأعجبت بالكلمة ورشحتها للتسجيل مع باقي الكلمات الأخرى التي اخترتها لكنني قلت: عليّ أن أفعل أحد أمرين إما أن أحذف هذه الحلقة من بين الحلقات الأخرى فلا أسجلها، وإما أن أسجلها كباقي الحلقات ليستفيد المستمعون من مضمونها ولكن على أن أتوقف عن التدخين بل أمتنع عنه وإلى الأبد!! وهكذا كان فخرت علبة السجائر وعلبة الكبريت من جيبي وألقيت بهما في سلة المهملات في الاستديو، وامتنعت بعد ذلك عن التدخين جملة وتفصيلاً، قليلاً أو كثيراً، ضيافة أو شراء، في الحضر أو السفر، (تنفيخاً) أو استنشاقا، وأنا على هذه الحال والحمد لله منذ ثمانية وعشرين عاماً.

والشيء الذي يفرحني ويسعدني أن أبني الأكبر الدكتور أحمد المجد كان من المدخنين المحترفين، فمّن الله عليه بالامتناع والتوقف عن هذه الآفة المدمرة منذ ثلاث سنوات والحمد لله، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الثبات على هذا الموقف.

***

وهكذا انتقل إبراهيم الذهبي إلى رحمة الله قبل أن يبلغ الخامسة والخمسين من عمره، وكذلك انتقل والدي عليه رحمة الله إلى لقاء الله عز وجل ولم يبلغ الخامسة والخمسين، وكلاهما إبراهيم الذهبي والوالد عليهما رحمات الله كانا من المدخنين المحترفين الذين يحرق الواحد منهم خمس علب من السجائر في اليوم والليلة..

والغريب أن (الوالد) عليه رحمات الله وهو الذي كان يعمل في (الدرك) وهو شرطة الأرياف كان ينزع تماما حين يصادف تجمعا من الشبان يدخنون وكان لا يألوا جهداً في زجرهم وحملهم على الامتناع عن التدخين، وهذا يدل على أن المدخن المتورط الذي أدمن على ذاك يعتقد جازماً بأن (الدخان) شيء مضر وأنه لا يريد أن يلحق ضرورة بغيره، لغرم انه لا ستطيع الإفلات من هذه العادة السيئة الضارة. وأشهد أن أبي يرحمه الله حاول الامتناع عن التدخين في حياته أكثر من مرة، وكان يتوقف عن التدخين شهراً أو شهرين أو ثلاثة يم يعود سيرته الأولى!

وإذا كان الدخان مادة ضارة جدا وسما ناقعا زعافا كما أثبتت وتثبت الدراسات العلمية بما لا يدع مجالاً للشك في ارتباطها الوثيق بمرض السرطان وخاصة سرطان الرئة وسرطان البلعوم وسرطان الفم واللسان، وغيره من الأمراض وأنه يضر بالمرأة الحامل وبجنينها الذي تحمله في بطنها وان تأثيره الضار، وخطورته لا تتوقف عند المدخن فقط بل تتعدى إلى رفقاء المدخن ممن يساكنهم ويعيش معم ويجلس إليهم، ويسهر ويتسامر معهم فإن واجب المدخن العاقل الحريص على صحته الحريص على حياته الحريص على ماله الحريص على دينه الذي أحلّ الطيبات وحرّم الخبائث، والذي يقول: (لا ضرر ولا ضرار) أن يتوقف عن التدخين على الفور وان يقف موقفا حازما مع نفسه فيقلع عن هذه العادة السيئة القاتلة بلا قيد ولا شرط وان يثبت أنه أقوى وأقدر وأعلى من أي عادة سيئة تسيطر عليه وتهيمن على مستقبله، وتستولي على مقدرات حياته!!

لقد أصبحت أتعوذ بالله كلما رأيت مدخناً، يسترسل في تدخينه ولا يستحي من غيره حينما يراه وهو يدخن! وأتألم كثيرا جدا من رؤية بعض المدخنين وهم يدخنون! أتألم من رؤية الطبيب والمرأة والشاب والطفل والفقير وهم يدخنون.

أتألم من رؤية الطبيب المدخن الذي أثبت الطب لديه مضار التدخين وآثاره السيئة ومضاعفاته الخطيرة، ومع ذلك تراه مصراً على التدخين لا يبالي بأن يراه الناس مخالفاً للنتائج العلمية التي أثبتها الفن الذي يطبق قواعده على غيره، ولعلّ هذا الطبيب الذي لا أقول عنه إلا أنه غافل مستشهد هو ما عناه الشاعر بقوله:

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا

أبداً وأنت من الرشاد عديم

أبدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وأتألم من رؤية المرأة وهي تعبث بشفتيها وهي تدخن سيجارتها، وخاصة إذا كان في بطنها جنين، غير عابئة بأن رائحة فمها يجب أن تكون زكية دائماً، وان رائحتها يجب أن تبقى شهية، وان جنينها يجب أن يأتي إلى هذه الدنيا بكامل صحته، وتنسى قول الشاعر:

إن النساء رياحين خلقن لنا

وكلنا يشتهي لشمّ الرياحين

وأتألم من رؤية الشاب الذي يدخن بشراهة، وقد حكم على نفسه بالانتحار البطيء، وربما أدى ذلك إلى الموت المفاجئ الذي حصل مع بعض أحبابنا دون أن يرفق بنفسه ودون ان يشفق على أمه وإخوانه وأخواته ومحبيه عندما تتخطفه يد المنون من بينهم، وتتركهم باكين مفجوعين، قد أكل الحزن قلوبهم وأحرقت اللوعة أكبادهم.

إنني أتألم من رؤية الطفل الذي لما يبلغ بعد مبلغ الرجال وأنا أرى بين أصابعه سيجارة يدخنها، فأحس بأن هذا الطفل يتيم لطيم ليس له أب يرعاه أو أم تحنو عليه، وقد يكونان على قيد الحياة! ولكن شغلتهما الدنيا وزخارفها وزينتها ولهوها عن العناية بأغلى ما يملكان ورعاية أثمن ما لديهما من رصيد..

إنني أتألم أشد الألم من الفقير المدخن وخاصة أن كان رب عائلة تتألف من زوجة وعدة أولاد.. أتألم وأنا أشاهده يحرق سيجارته رغيف الخبر الذي يحتاجون إليه، وثمن الرداء الذي يلتحفون به والحذاء الذي يحمي بطون أقدامهم من شوك الطريق، وقيمة الدواء الذي ينتظرونه بفارغ الصبر!!

كذلك فإنني أتألم شديد الألم وأشعر بمرارة البؤس حينما أرى طالب علم يخطب في الناس يوم الجمعة ويؤمهم في الصلاة، أو معلما من المعلمين في مدرسة من المدارس.. أتألم حينما أرى أحدهما يدخن، وقد حاول أن يختفي عن أعين المستمعين لخطبته أو المصلين وراءه، وان يبتعد عن أنظار تلاميذه في المدرسة، مختبئاً في أحد الحمامات، وأقول:

إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً

فشيمة أهل البيت كلهم الرقص

وإن نسيت فلا أنسى السهرة (التاريخية) والعشاء الذي دعانا إليه أخي (أبي المعالي) الدكتور زياد (وزير الأوقاف السابق في سوريا) في أواخر السبعينيات من القرن الميلادي الماضي، وكان ذلك في بيته في حي (البديعة) في (الرياض) حين كان يعمل أستاذاً لمادة (التاريخ الإسلامي) في (معهد الرياض العلمي)...

كنا في ذلك العشاء والسهرة التي سبق أن تحدثت عنها في مقال سابق ستة أشخاص، ثلاثة منهم توجهوا إلى لقاء الرحيم الرحمن هم الدكتور (عمر الخطيب) والأستاذ (منذر النفوري) ومن أتحدث عنه في مقالي هذا عليهم رحمات الله، والثلاثة الأخرون الذين ينتظرون رحمة الله ويرجون رضوانه، وما بدلوا تبديلا بإذن الله هم صاحب الدعوة وجاره في ذلك الوقت أخي الآخر السيد (صلاح الدين)، وكاتب هذه الأسطر..

وقد سهرنا بعد العشاء سهرة طويلة ممتعة امتدت لساعات تطرقنا فيها إلى كل الأمور من حولنا، وقص علينا أخونا (إبراهيم) عليه رحمة الله من القصص، وروى لنا من الطرف والفكاهات الشيء الكثير، وكذلك فعل الباقون وقلّد إبراهيم الشخصيات التي يجيدها وقد أبدع في ذلك ثم توجهنا إلى أداء بعض الأناشيد والأغاني الشعبية ك(العتابا) و(الدلعونة) و(الهوارة) وغيرها ببادرة من (أبي إسماعيل) الدكتور (عمر الخطيب) يرحمه الله، وكان - عمر - قائدنا في ذلك ولا سيما أن أكثر هذه الأناشيد لابد من أن تؤديها المجموعة فكنا نشكل جوقة مثالية وأذكر ان القسم الأكبر من ذلك الفاصل الانشادي الغنائي كان محوره العبارة التالية:

(يا با لا لا ولا لا يا لا لا.. قتا لا عيون الحلو قتالا)

وأذكر كذلك ولا أنسى أن (إبراهيم الذهبي) في تلك الجلسة وأكثر الحاضرين فيها بل أكثرهم مدخنون إذ أنني لم أكن قد توقفت وامتنعت عن التدخين بعد.. أذكر أنه قضى على سجائر العلبة التي كانت معه، ثم قضى على سجائر العلبة الاحتياطية التي في حوزته، ثم تلفّت يمنياً وشمالاً فقضى على ما تبقى من سجائر في علب سجائر الآخرين من الجلساء، غفر الله له، وجعل هذه المسألة من الصغائر واللمم الذي لا يؤاخذ عليه..

***

(فادي) الحبيب

لقد ذكرني مقالك الذي ينضح بالصدق في حب راعي هذه البلاد، والآخذ بيدها إلى مراقي العز والفلاح في الدنيا والآخرة، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أطال الله في عمره وزاده رضى وتوفيقا هو وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير (سلطان بن عبدالعزيز)..

ذكرّني مقالك الذي يعج بالولاء لهذا الوطن النبيل الذي يحتضن أشرف مقدسات الإسلام، ويقود العالم إلى طريق التعاون على البر والتقوى، والابتعاد عن طريق الإثم والعدوان..

ذكرني مقالك بأبيك زميلنا وأخينا وحبيبنا (إبراهيم الذهبي).. مذيعاً جسوراً قديراً، وصوتا ذهبيا قويا مدويا، وإعلامياً مميزا متفردا فذاًَ!!

فادي الحبيب

اسأل الله لك ولإخوانك الأعزاء (نضال) و(الحسين) و(المجد) ولأمكم الكريمة السيدة (أم نضال) اسأل الله لكم تمام الصحة والعافية، وان يوفقكم الله إلى ما يحبه ويرضاه في الدنيا والآخرة.

واسأل الله كذلك لوالدكم الكريم الأستاذ إبراهيم الذهبي أعلى فراديس الجنان، وأن يكون ممن أنعم الله عليهم بالمغفرة والرحمة والرضوان، وان يجمعنا وإياكم به على حوض نبيه، وفي مستقر رحمته، وان يكرمنا ويسعدنا جميعاً بالنظر إلى وجهد الكريم إنه لسميع مجيب.

للاتصال وإبداء الرأي

z-alayoubi@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد