Al Jazirah NewsPaper Tuesday  30/09/2008 G Issue 13151
الثلاثاء 01 شوال 1429   العدد  13151

رمضان و(أنا) وشيء من الذكريات 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل

 

ومما اعتدته عند فُشُوِّ أي ظاهرة أو ظهور أي نازلة في أي حقل معرفي أو قرب أي موسم عبادة أن أقرأ فقه ذلك كله وتاريخه وقواعده، وفيما يخص العبادات الموسمية، أتخطى فقه المذهب الذي أنتمي إليه إلى الفقه المقارن

وأتخطى رؤية المؤدلج والمنتمي إلى رؤية المعرفي و(اللامنتمي)، إذ لا ضير من ذلك على من أراد التحصن المذهبي.

ولقد أشفقت على الوجلين الذين يرتهنون أنفسهم في ضوائق مذهب الانتماء، ويسلمون آراءهم لأي مجتهد قد لا يحالفه الصواب، خشية اضطراب الأقول، حتى أن أحد الزائرين لمكتبتي رغب مني استبعاد كتب الخلاف والمذاهب الأخرى، مدعيا أنها لا تزيد المحتفي بها إلا حيرة واضطرابا، وما زادني قوله إلا إيمانا برؤيتي وتعلقا بها.

وفيما يتعلق بمواسم العبادات، تكون بدايتي من فلسفة الفقه كما هو في (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) (لابن رشد) ت595هـ من خلال كتاب (الهداية في تخريج أحاديث البداية) (للغماري) ت1380هـ، ومتكأ التفلسف الفقهي تحليل الأحكام لتوسيع رقعة الرأي والقياس، وهي التي شنع عليها أهل الظاهر، وتمادى فيها الأحناف، وللمختصمين حول هذه المصادر حكايات ومناكفات تصل إلى حد الاتهام بمساءلة الله عما يفعل، و(ابن رشد) يذكر اختلاف العلماء وأسباب الاختلاف، ومدى ارتباط الحكم بالتعليل، فعلى سبيل المثال حين يستهل الحديث في (كتاب الصيام) يرسم خطوات البحث، بحيث يستوعب كل متطلباته ومتعلقاته التي تخطر على بال المستفتي من صوم الواجب والمندوب وأنواع الواجب وأركانه والمفطرات والمفطرين وأحكامهم والرؤية للصيام والفطر وطريقها بين الحس والخبر، ومتعلقات زمن الإمساك والنية وأحكام أهل الأعذار وقضائهم والكفارات بين الترتيب والتخيير والتكرير والمقادير، وسنن الصوم المندوب إليه والمنهي عنه زمانا ومكانا.

وقد تمتد يدي إلى كتب الفقه المقارن بين المذاهب كما هو في كتاب (المغني) (لابن قدامة) ت620ه من خلال الطبعة المحققة والمخرَّجة الأحاديث في سلسلة المشروع العلمي لمعالي الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي سدد الله على النور خطاه، وسيكون لي حديث مستفيض - إن شاء الله - عن هذا المشروع، وهذا الامتداد الأفقي يعقبه أو يواكبه امتداد رأسي، وذلك بقراءة الخلاف في المذهب الواحد، كما هو في كتاب (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل) للمرداوي ت885ه بتحقيق (الفقي) وقد يحدوني عويص المسائل إلى التعريج على موسوعات المذاهب كالمبسوط، والبدائع، ورد المحتار، والمجموع، والمدونة، والكشاف، والفروع، والنيل والسيل للإمام (الشوكاني)، وإلى كتب الفتاوى الفردية والمؤسساتية - كهيئة كبار العلماء - ومفردات المذاهب والأشخاص، والمقدم من المذاهب، وما توصلت إليه المجامع الفقهية والهيئات، ولا أقطع صلتي بكتابين هامين هما فيما أسمع وأعلم منطلقات فقه (ابن تيمية) ومختاراته (المحلى) (لابن حزم) ت456ه و(التمهيد) (لابن عبدالبر) ت463ه ولقد سمعت مقولة تنسب ل(ابن عبدالسلام) ت660ه بعدم جواز الإفتاء لمن لم يقرأ (المغني) و(المحلّى) وبعد المرور على متعلقات الصوم ومحققاته في تلك المختصرات والموسوعات الفقهية، تكون لي قراءات متنوعة، ولكنني أركز على علوم القرآن الكريم، وكنت في مستهل كل عام أفاتح طلابي حول ظاهرة الضعف اللغوي، وأضرب لهم المثل بنفسي، فلقد تخرجت من (كلية اللغة) وأنا دون الجيد في النحو، ولم أتفاد هذا الضعف إلا من خلال إعراب القرآن، وذلك باستصحاب مختصرات الإعراب وأيسرها أثناء التلاوة مثل (معجم إعراب ألفاظ القرآن الكريم) الذي أنجزته مكتبة لبنان وأجازه مفتي مصر وراجعه أبو عبيه في مجلد واحد، وكتاب (إعراب القرآن الكريم الميسر) للأستاذ الدكتور (محمد الطيب الإبراهيم) في مجلد واحد، وعند المشكل أعود للمطولات مثل (الجدول في إعراب القرآن) ثلاثة عشر مجلدا كما أعود لكتب (النحاس) و(العكبري) و(درويش) أو (القيسي) في إعراب المشكل، وفيما بين هذا وذاك أعمد إلى قراءات استعراضية وغير مركزة، فالشهر موسم عبادة وتلاوة، ولأن الإجازة الصيفية أتاحت لي فرصة المرور بعدة دول تزودت من مكتباتها بما جد في علوم الفلسفة والسياسة والأدب، فقد كانت لهذه الكتب أولوية الاستعراض قبل أنت ترقد في حقولها من مكتبتي، ولقد تذكرت (كتيبا) استله (العقاد) من كتابه (أنا) يتحدث فيه عن مكتبته وبين كتبه وفي بيته، وعن الفتاة التي ذهلت من كثرة الكتب وصمتها الواجم، وعن الريفي الذي خلع نعليه، ولم يمس الكتب، لأنه لم يكن على وضوء، لقد أكبر العقاد (البراءة والجهل) اللذين فطرا على احترام العلم وإكباره، ووصف الكتب في رفوفها بالغذاء المحنط، وقال: إنه أفضل ما اخترع الإنسان من صناعات، إن مكتبة نيّف زمن جمعها على نصف قرن، ونيف عددها على عشرين ألف كتاب لقمينة بأن تحفل بكل المفارقات حقول متجاورة عن (الله) و(الإنسان) و(العقل) و(اللغة) و(الشيطان والروح والملائكة والجن) و(العقائد) و(العبادات) و(المعاملات) و(الحضارات) و(التراث) و(السياسة) و(الأحزاب) و(المذاهب) و(المنظمات) و(الثقافات) و(الآداب) وسائر المعارف والمناهج والقواعد والأصول، وعلوم القرآن والفقه والكلام والفلسفة، إنها جديرة بأن تأتي على كل ما فضل من الوقت بل تكاد تستأثر بالوقت كله، حتى لا يكون زمان إلا للضرورات. وشهر رمضان يربطني بالمكتبة، ويمكنني من استعراض حقولها، إنه شهر الجد والعمل، وهو في ذات الوقت شهر النوم والسهر، فلكل معه وجهة هو موليها، وهو شهر يمضي كساعة من نهار، وليس كما شبه به الأعرابي: (كشهر الصوم في الطول) وشوقي فصل في طوله وقصره في خمريته التي خالف فيها عاطفته الدينية وأثار حول تدينه جدلا لم ينته بعد:

رمضان ولّى هاتها يا ساقي

مشتاقة تسعى إلى مشتاق

ما كان أكثره على ألافها

وأقله في طاعة الخلاق

ورمضان اليوم يختلف عن سائر الرمضانات التي سلفت، وهذا الاختلاف في المآكل والمشارب والمساكن وسائر الممارسات والإمكانيات والمغريات يضطر المخضرمين أمثالي من مغالبة التغيير، فما كنا من قبل نحيي لياليه بالسهر، وكيف يتأتى لنا ذلك؟ ونحن نكدح في نهاره، ولا نستطيع أن نقيل في شدة الحر وحاجة أهلنا إلى جهودنا، وما كانت هناك وسائل ترفيه من إذاعات وقنوات فضائية وليست هناك سيارات تقرب البعيد وتغري بالمزيد، ولا مكيفات تلطف الأجواء، ولا ثلاجات تبرد المياه ولا عصائر ولا فواكه، ولا فطائر. لقد كنا نحسوا الماء من الشن ونأكل التمر من الجصاص، ونطهوا الطعام على الحطب، لا نعرف المعجنات ولا المقليات ولا المحشيات ولا سائر العصائر والمشروبات، ولكن كان رمضان أحلى، ولياليه أبهى، وروحانياته أعم، نكدح في النهار حتى إذا حان الإفطار كانت لنا فرحتان، فرحة باليسير من الطعام، والطويل من النوم، بالإضافة إلى الفرحتين اللتين أخبر بهما رسول الرحمة، إذ نجوع ونظمأ ونعيا، ونتوق إلى شربة الماء وما تيسر من التمر، أما جيل اليوم فإنه ينام في نهار رمضان، ويلهو في ليله، فإذا حان الإفطار نظر إلى الموائد المتنوعة الأشكال والألوان والطعوم نظر المغشي عليه من الإعياء، خرجت الأمهات من المطابخ فخرجت معهن النكهات والأكلات الشعبية ودخلت الخادمات مخلفن الكسل والترف والاسترخاء، كنا قبل الماء والكهرباء وسائر متطلبات البنية التحتية ننطلق بين العشاءين كالعصافير إلى مساجد الموسرين الذين يعلقون (القِرَب) على الأبواب، ويجلبون القهوة والشاي للمتهجدين نرتوي من الماء العذب الفرات، ونشرب من الشاي فيتركنا ملوكا وأسدا لا نمل من الركض من مسجد لآخر، حتى نمر بها جميعها، لقد كان لرمضان نكهة خاصة وللتجمع فيه بهجة، إيثار على النفوس مع الخصاصة، وبذل من الموجود بسخاء، لقد كنا نطرب للمتغنين بالأحاديث والأدعية والتمجيدات التي استطاع بعض المؤلفين سبكها بعبارات مسجوعة وجمل موزونة، ومن خلال نفس صوفي مغرق في التغني والتوله ككتاب (عقود اللؤلؤ والمرجان) ولا سيما إذا كان القارئ صاحب صوت جميل، ومن بين تلك الترنيمات التي لما تزل عالقة بالبال الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به) لقد وضعه المؤلف في سياق السجع كما آية {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فبين كل جملتين أو ثلاث أو أربع مسجوعة وموزونة يتردد هذا المقطع من الحديث، فيتمايل معه السامعون في خشوع وانكسار وطمع بأرحم الراحمين.

إن لرمضان الأمس لنكهات لو عرفها جيل اليوم لجالدونا عليها بالسيوف ولكن الترف فوت عليهم الكثير من مقاصد الشريعة، ولو ركضوا إليها لأرجعوا إلى ما أترفوا فيه، إذ ما دخل الترف في شيء إلا أفسده، وما ذكر الترف في القرآن إلا في سياق الذم، لقد ورد ذكره في الذكر الحكيم أحد عشر مرة كلها في سياق الذم للمترفين.

ورمضان لم يكن عشق العلماء ولا رهين المحاريب، إنه ملهم الشعراء والأدباء، ولأن الشعراء أرق مشاعر وأحر تولها، فقد كانت لهم معه وقفات تأمل واحتفاء واستثارة للهمم، ومحاسبة للنفس، وللشاعر السعودي كغيره من الشعراء وقفات تشف عن تعلق وتوله، حتى لقد خص هذا اللون من الشعر برسائل علمية تقصت ما قيل فيه من الشعر، ولقد تناولت ذلك بشيء من الإيجاز في رسالتي العلمية (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر) وخلف من بعدي من تقصى هذا الموضوع وظفر بعيون الشعر، ولو اتسع المجال لسقنا بعض الشواهد، ولكنها خطرات عجلى أرجو أن تحفز إلى التقصي فشهر رمضان ينطوي على فوائد وذكريات عذاب.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد