Al Jazirah NewsPaper Tuesday  30/09/2008 G Issue 13151
الثلاثاء 01 شوال 1429   العدد  13151
( مزلوه ) !
رمضان جريدي العنزي

رواد المرقص الليلي صنعوا صفاً طويلاً له شكل الدائرة، وبدأو بالدبكة وبالرقص، حركاتهم منضبطة، وإيقاعاتهم منتظمة، وأياديهم ممسكة ببعض، وأكتافهم متلاصقة، وأقدامهم بدأت تضرب الأرض برتم خفيف، ثم بقوه متناسقة، ورؤوسهم أخذت بالاهتزاز والتمايل، رواد المرقص أخذوا يدبكون بعنف، ويدكون الأرض دكا.

بنفوس منتشية، وحركات رشيقة وناشطة، تدور الأجساد، الأكتاف تتلامس، والأيادي تتعانق، والأرواح تتآلف، والمغني يغني: (يم ثوب أحمر نص ردان حطيني بحضنك بردان)

يتحول بعدها المغني للحن آخر:

(ياعرب السلمية دقوا التشاسر عا التشاسر وآنا بهوى بنيتهم عالفرقه ماني قادر).

رجال الدبكة يزدادون نشاطاً وحماساً، تتواصل الدبكه والغناء، حتى أصبح (للدبيكة) شموخ ونشوة، تحت تأثير موسيقى مخلوطة من بيانو وقانون وإيقاع طبل.

رقص .. رقص، موسيقى .. وغناء، لا شيء غير الرقص وغير الموسيقى وغير الغناء.

صالة الرقص لها ألوان باهرة جذابة وملونة، ولها ديكورات راقية التصميم، وروائح عطرية مغرية ونافذة، ونساء غجريات فاتنات يتقن الرقص ويقدنه، ويزرعن في الحضور مزيداً من التوهج، ومزيداً من النشوة، ليصنعن احتفالية حالمة في ليل صيفي بهيم، والنادل يدور في الاتجاهات ملبي الطلبات، بابتسامة تنم عن حرفية مهنية عالية.

أصوات مرتفعة وصاخبة، وإيقاعات مجنونة، وتبدلات ألوان ضوئية صارخة، والليل يبدو بلا نهاية. في الطرف المقابل من الصالة يجلس (مزلوه)، شبه معزول، يتابع حركات الراقصين وكأنهم في سباق مع الذات ومع الوقت، نظراته تدل بعدم ارتياحه لمجيئه لهذا المكان، لكنه جاء.

تمضي احتفالية الرقص، ليتذكر (مزلوه) وجه أمه المحفور بالوشم، وهي (تخض) (صميل) اللبن لتستخرج الزبدة، ومن ثم (تشكل) أطراف ثوبها عن ذراعيها، لتوقد النار لتبدأ بالخبز على (الصاج)، استعداداً لتقديمه لوالده الذي يتهيأ للذهاب لتفقد (شياهه) (الدرع)، متدثراً (بالفروة) (الرعيانية) الثقيلة لتحميه من لسعات البرد، تنقله إليها سيارته (الحصنية) الملوثة بالطين وبالغبار، في صباح ربيعي حالم في إحدى تخوم الشمال، لتترك في نفس (مزلوه) حزناً عميقاً وعدم متعة.

وبدأ يفقد البهجة شيئاً فشيئاً، ليرى ( مزلوه ) نفسه خارج صالة الرقص، مشى في العتمة، الريح ساكنة، والليل حالك، إلا من بقايا أضواء خافتة لسيارات عابرة، والأشجار المحاذية للطريق تبهر المكان. تمتم ببعض الأدعية، وردد بعض الآيات، وعيناه تدمعان ندماً وحسرة.

عبر إلى الشارع الآخر، الفجر بدا يدنو، والمدينة تتهيأ للاستيقاظ، والمطر يهطل بقدر، والهواء جميل. أسرع (مزلوه) الخطى ليدلف إلى داخل المسجد، ليصلي، صلى ودعاء وأكثر، ثم دخل إلى غرفته، شعر بالبرد، احتسى شاياً حاراً، وقضم أظافره كالصغار، تدثر بالأغطية بعنف، تذكر ليلة الرقص تلك، بكى طويلاً، ثم قرأ تراتيل الرحمة، وأدعيه السلام، ورجاء المغفرة، ثم نام بعمق، وصحا ليقسم مقاطعه صالة الرقص وعفونتها، وألوان أضوائها الملونة الباهتة، ونسائها الغجريات ذوات الأجساد البلورية، ليخرج بعدها من ظلام الرقص، إلى نور الحياة، ومصابيح الهدى.

إشارة :

(مزلوه) عاش في هجرة نائية في بيت شبه بدائي نصفه طين والنصف الآخر خشب، مسقوف من قش وأشرعه بالية، الآن هو طيار ماهر، يعبر فضاء الأجواء وجغرافية الأرض، بحنكة بالغة، وذكاء خارق، ليخدم الأمة، ويخدم الوطن، صنعت منه العزيمة وتحدي النفس والهوى رجلاً آخر منتجاً وفعالاً.



ranazi@umc.com.sa

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد