Al Jazirah NewsPaper Tuesday  30/09/2008 G Issue 13151
الثلاثاء 01 شوال 1429   العدد  13151
نوافذ
ظلمة
أميمة الخميس

البارحة انقطع التيار الكهربائي عن الحي الذي أقطنه ما يقارب الثلاث ساعات، حيث فجأة التهمت العتمة جميع التفاصيل من حولنا واندسسنا في كهف من الظلمة، تماماً في تلك اللحظة التي كانت تلتف على اكتمال طمأنينتها، وبأن الضوء والتلفاز وطنين الأجهزة حولنا أمر دائم ومؤزل وأبدي.

على حين غرة نزفت الحياة نسغها الضوئي الذي كان يغذي علاقتنا مع الموجودات، وفرغ الزمان والمكان من جميع العلاقات التي تربطنا بهم (أو خديعة الكهرباء جعلتنا نظن ذلك) ولم يبق لنا سوى أذرعنا الممدودة نحاذر بها الأثاث، ونتواصل عبر الأصوات كالخفافيش ومخلوقات الظلمة، تلك الثلاث ساعات جعلتنا نعيد مراجعة علاقتنا مع محيطنا بكثافة، وكيف حولنا ضوء المدينة فجأة إلى مخلوقات مشلولة عاجزة عن أي فعل أو إنتاج، فقط مجموعة من البشر المكبلين المعتقلين في غرفات الأسمنت يتحايلون على حرارة الجو بمكعبات ثلج شرعت في الذوبان.

ولأنني انتهيت للتو من قراءتي لرواية زهرة الصحراء التي تحكي قصة الصومالية (ويريس دايريه) ورحلتها العجيبة من كونها راعية غنم في صحراء الصومال إلى تحولها إلى عارضة أزياء عالمية في نيويورك ولندن، استعدت تلك التفاصيل التي كانت توردها في الرواية عن مراحل صباها وطفولتها في صحراء الصومال، حيث الإنسان البدوي المتنقل مع قطعانه، ومواجهته اليومية المباشرة مع الطبيعة وشراستها وقسوتها، الطبيعة الصومالية التي تقترب كثيراً من طبيعة صحرائنا، والعديد من التفاصيل التي تكاد تتطابق معنا فيما يتعلق بارتباط الصحراوي مع قطعانه وماشيته وشوقه المؤزل للماء.

انقطاع الكهرباء اختطفني نحو تلك اللحظات التي تصبح فيها بمواجهة مباشرة مع الطبيعة من حولك، مواجهة لا بد فيها إلى قلب جسور يعلم بأن كفة القوي لن تكون على الغالب في صالحه، في مواجهة يومية شرسة من أجل العيش.

مياهنا المعقمة، ومكانسنا الكهربائية التي تتقصى التراب في الزوايا والأركان، وأيدينا المغلفة بالمرطبات والمنعمات، وطعامنا الماسخ الذي قطع رحلة طويلة ليصل موائدنا فاقداً خصائصه الأولى.

جميع هذا اختفى مع ثلاث ساعات من الظلمة، حندس أعادنا إلى خد المكان حيث لا شيء سوى نحن وسماء تشهق بموجات من النجوم، ونسمات مسائية تحاول أن تستجيب لنجم سهيل الذي قد بزغ منذ أسابيع ولكن لم يبترد الليل.

بالتأكيد مع تلك الظلمة العاجزة سيكون الوعي مقولباً بداخل حدوده، وستكون المخيلة هي سيدة اللحظات، المخيلة التي تخلق الأساطير والواحات والخوارق والجن والكرامات.

مخيلة العاجز المكبل بمحدودية بشريته وطبيعة قاسية.

لا أدري إن كان توقيت نشر مقالي هذا سيصادف أول أيام العيد، حيث مدينتي.. الرياض تضع مكياجاً كثيفاً من الأضواء في كل شارع، وعند كل منعطف، وستبدو مبهرة ومغوية، تقارع بالضوء جميع مخلوقات الظلام والعتمة الذين هيمنوا عليها لقرون طويلة.

مفارقة الضوء - العتمة هي الثنائية الأشد حضوراً في حياة البشر.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6287 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد