Al Jazirah NewsPaper Monday  06/10/2008 G Issue 13157
الأثنين 07 شوال 1429   العدد  13157

وفي الفيحاء تنداح السعادة
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

منذ أن عدت من دراستي خارج الوطن العزيز قبل ستة وثلاثين عاماً ندر أن قضيت إجازة، أو بعضاً من إجازة، في غير ربوعه المحببة إلى نفسي، ولم أشعر بسعادة غامرة مثل سعادتي في هذه الربوع.

وخلال هذه السنوات المديدة ندر، أيضاً، أن قضيت إجازة، أو بعضاً من إجازة، داخل الوطن في غير عنيزة الفيحاء.

وكنت عند عودتي من تلك الدراسة، والوصول إلى الفيحاء، قد كتبت قصيدة عنوانها (عودة الغائب)، معبراً، أو بالأحرى محاولاً التعبير عما كنت أحس به من مشاعر حينذاك. ولما نشرت تلك القصيدة تلطَّف بكتابة معارضات لها كل من الشاعر المجيد عبد الله الحمد السناني، رحمه الله، والشاعر المبدع عبد العزيز المحمد المسلم رحمه الله، والشاعر الكبير إبراهيم المحمد الدامغ، أسبغ الله عليه ثوب الصحة والعافية، والشاعر المتألق عبد الرحمن السماعيل.

ومطلع قصيدة عودة الغائب:

طربت.. ماذا على المشتاق أن طربا

لما دنت لحظات نحوهن صبا؟

ومن أبياتها التي حاولت أن أعبر بها عن بهجتي بالقدوم إليها:

أتيت من غربتي كي أستريح على

ربًى لدى قلبي المضنى أعز رُبى

ما بينهن عرفت الأنس في صغري

وفوقهن عرفت اللهو واللعبا

ومنها:

من كان مثلي بالفيحا تعلُّقه

فلا غرابة أن عانى ولا عجبا

أحلى العرائس ما من عاشق لمحت

عيناه فتنتها إلا لها خطبا

تنام ما بين جالٍ كلُّه شمم

وبين كثبان رمل كلُّهن إبا

وإن تأملت أزياء تتيه بها

رأيت من بينها البرحيَّ والعنبا

وللإجازة في الفيحاء روعتها الخاصة، شتاء وصيفاً فللإجازة الشتوية - وإن كانت عادة قصيدة - نشوتها وبهجتها تماماً كما للإجازة الصيفية متعتها وجاذبيتها لو لم يكن من نشوة إجازة الشتاء وبهجتها إلا سهرات يتحلَّق فيها الأحبَّة حول نار الغضا في منابته التي توجّد الغازي في جيش ابن عفان، مالك بن الريب على المبيت فيها ليلة يزجي القلاص النواجيا لكفى ذلك إسعاداً ويكفي من هو مثلي من متعة إجازة الصيف وجاذبيتها تمشية وقت شروق الشمس أو قبيل غروبها - بين نخيل باسقات طلعها نضيد عرفها صبياً عندما كان يذهب وحده أو مع رفاقه إليها أملاً في الحصول على ما قد يكون سقط رمخاً من ثمارها أو يذهب عبر ظلاها إلى إحدى قلبان فلايحها للسباحة.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإني ما زلت أذكر ما حدث لي في قليب البعجاء.

تلك القليب واسعة، والرقي من أسفلها إلى أعلاها ليس من أركانها، أي ربعها، بل من صدرها وفي ذلك ما فيه من صعوبة، وبخاصة للعليمي مثلي حينذاك. أذكر أني لما توسطت الرقي مع ذلك الصدر نشبت.. توقفت عاجزاً عن الحركة.. ولا تسل عن انهيار المعنوية في موقف مثل ذلك الموقف بين الأقران.

وكان هناك نوع من الناموس يقع على ظهري فيضايقني. وما كنت قادراً على تحريك يدي كي أبعده. عند ذاك صوَّت - وأنا ممتلىء خوفاً - لأخي الشيخ محمد، رحمه الله مستنجداً به كي ينقذني مما كنت فيه فاقترب مني، وراح يرشدني إلى نقل يدي من موضع إلى آخر وأحرك قدمي من طيَّة إلى أخرى، حتى وصلت إلى الجوبة، وخرجت من القليب سالماً.

وما زلت أذكر أيضاً ذهابي صكة عمي تقريباً من بين نخيل الجناح إلى قليب الخشما التي تبعد عن وسط عنيزة بضعة أميال. كانت الرمضاء شديدة، وكنت - مثل أقراني حينذاك - أمشي حافياً. وكنت أنقز من ظل أثلة إلى ظل أثلة أخرى حتى وصلت في نهاية المطاف إلى تلك القليب.

وما إن وصلت لى جوبتها حتى جمحت منها إلى الأسفل وكان من التباهي الشبابي أن يغوص السابح ليطلع القاعة، أي ليصل في الغوص إلى قاعة القليب، فيخرج بيده ما يثبت للآخرين بأنه فعلاً وصل إليها. وكان من سوء حظي أن (انفجرت) أذني اليسرى نتيجة الضغط في عمق البئر.. وأذكر أنها ظلت شهوراً تخرج صديداً، ولم يفد في علاجها ما كان يشار بوضعه من وصفات علاج شعبية، وذلك - بطبيعة الحال - قبل وجود المستشفيات الحديثة على أني لم أتوقف عن ممارسة السباحة في القلبان بعد تلك الحادثة.

بل بدا وكأن لسان حالي يقول: (إذا غطست وطّّْ على سكانه.

أما بعد:

فإني ما قضيت إجازة في ربوع عنيزة الفيحاء إلا وشعرت بسعادتي تزداد عمقاً كيف لا، وهي مسقط الرأس ومرتع الصبا، وملعب الشباب؟ وفي هذه الإجازة التي ما زلت أنعم بظلال سعادتها الوارفة كان مما زاد بهجتي ما رأيته من تطور عمراني متسارع في المدينة، ومن تحسين لشوارعها أنجزه المسؤولون فيها، وبخاصة من يتولون إدارة بلديتها، زادهم الله سداداً وتوفيقاً على أن بهجة العيد.. عيد الفطر المبارك.. اتسع مدى اندياحها نتيجة ما أحدث من تطوير متميز للاحتفال بقدومه.. فالعرضة كانت رائعة مسيرة قام بها شباب يتدفقون حيوية لا يقل عددهم عن مئة وخمسين شاباً يتقدمهم المهرة من أصحاب الطبول والبيرق وخلفهم كوكبة من الخيل ثم أعداد من الركايب وكانت شيلتهم والمسيرة متجهة إلى المكان الرئيس، على وزن شيلة:

يا رب سمِّح للركايب

وافرج لهن من كل شدة

ربعي عطيبين الضرايب

بالكون يخلون الاشده

وكان مما أكمل رونق العرضة المتميزة هذا العام ما تلاها من سامري يذكر بقصيدة عبد العزيز البراهيم السليم رحمه الله التي من أبياتها وصفه لذلك اللون من الفن بقوله:

قلبي اللي سمر من حس طار سمر

يوم راعى الهوى يصغي لطقة يده

طوَّعهن هل العادات فوق وحدر

لن طاعن وميت القلب وش عوِّده

والمبدعون في السامري مبدعون - من باب أولى - في ألوان أخرى من اللعب بالطبول مثل الحوطي والناقوز. وكان أن توِّج كل ذلك برديات أحياها شعراء متألقون في جو أخوي رائع وما كان ذلك كله ليتم لولا الجهود العظيمة التي بذلها الجميع، وفي طليعتهم محافظ عنيزة ولجنة أهاليها الكرام وفرق الفنون الشعبية فيها، فرداً فرداً، إضافة إلى الكرام من الشعراء.

وإني لعلى ثقة من أن كل من حضر ذلك الاحتفال، أو شاهده بأي وسيلة سيكون مثلي فخوراً بما تم وأنجز شكوراً لكل من أتم وأنجز.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد