Al Jazirah NewsPaper Monday  27/10/2008 G Issue 13178
الأثنين 28 شوال 1429   العدد  13178
حين تكون صورة الإرهابي أقسى من حقيقته
د. عبدالرحمن الحبيب

هناك تنظيرات كثيرة لتحديد الظروف المهيأة والعوامل المسببة للإرهاب، ولكن قلما نجد تصوراً يحلل أسباب القسوة الحادة في درجة العنف لهذا الإرهاب. فإذا كان يمكن فهم العنف المتبادل لأعداء متحاربين، فإنه يصعب فهم العنف ضد أناس أبرياء ومحايدين.. ......................................

فالقسوة هنا لا تكتفي بقتل أسرى أعدائها ولا المختطفين، بل تقتل أياً كان من الأبرياء حتى لو كان مراسلاً صحفياً محايداً أو سائق سيارة إسعاف أو ممرضة بريئة، رغم عدم احتياجها المباشر لذلك.. إنه سيناريو رعب يصور مشاهد الذبح اليومي بأقسى ما يعرفه البشر من تفجير المباني عشوائياً إلى قطع الرؤوس بالسكاكين.. ويتم الاهتمام بتصويرها، حتى لو كانت الضحية من جماعة دينية قريبة جداً من جماعة الجاني.. إنها الصورة حين تكون أقسى من الجاني... لماذا؟!

فيما سبق كررت مفردتي (محايدة) و(بريئة)، وهذا يستدعي أن نسأل من هو غير البريء في نظر الإرهابي؟ الإجابة هي: العدو العقائدي جيشه وإدارته، ثم الجهات الأمنية، ثم أفراد البلدان أو المنظمات التي ينتمي إليها العدو، ثم من هم على علاقة دعم لهم..الخ، لكن الإرهابي يواجه صعوبتين كبيرتين، هما في تقديري ما يجعل درجة القسوة تتعدى وحشية الحروب المعتادة لتدخل في الوحشية بأقصى درجاتها الممكنة.

الصعوبة الأولى تتمثل في تعذر الوصول لأهداف العدو العقائدي وأولئك المصنفون في نظر الإرهابي بأنهم أهداف مشروعة (العسكريين مثلاً)، فتكون الضربات قليلة أو ضعيفة على العدو الأساسي، فتتحول إلى من يُظن أنهم حلفاء أو حتى غير خصوم لهذا العدو.. والفكرة هنا هي أن عدم القدرة على ضرب العدو مباشرة في أجزائه الرئيسة يغير التكتيك إلى ضرب العدو في أجزائه الثانوية (حلفائه) أو المساعدة (غير خصومه)، لعل ذلك يثمر في إضعافه..

ولكن الواقع أن الإرهاب بهذه الطريقة يعمل على تقوية عدوه الأساسي، لأنه يوجه له ضربات غير فعَّالة من الناحية المادية (باستثناء ضرب برجي التجارة المباغت).. فوقوع الهجمات الإرهابية على أمريكا أتاح الفرصة لحرب تريدها الإدارة الأمريكية وتخطط لها حسبما يقول الكاتب البريطاني جون لوكاريه، الذي يرى أيضاً أن هذه الحرب جاءت بموازنات إضافية ضخمة تقدر بمئات المليارات، وسهلت فوز الرئيس الأمريكي في الرئاسة الثانية..

الصعوبة الثانية، تتمثل في طبيعة العولمة، حيث النظام الرأسمالي العولمي يسير بطريقة وحشية دون ضابط ودون تحديد على من تقع المسؤولية في سير النظام.. وهنا يضيع تحديد العدو الأخلاقي الذي يعطي مشروعية للعنف.. هل يوجه ضد الأنظمة السياسية وأصحاب القرار السياسي، أم رؤساء المنظمات التجارية الدولية وأصحاب القرار التجاري، أم أصحاب البنوك، أم أصحاب رؤوس الأموال..؟ وهل القرار هو قرار محلي قومي أم دولي عالمي.. الخ؟ لذلك نجد أن المقاومات التقليدية للظلم الرأسمالي لم تعد تجدي وأصبحت قليلة الفعالية، سواء كانت سلمية مثل المظاهرات والإضرابات أو عنيفة كاختطاف أو اغتيال أصحاب القرار أو رؤوس الأموال، لأن هذه المقاومات لا تستطيع أن تحدد المسؤولين في الظلم العولمي..

ولأن المقاومة العنيفة التقليدية غير فعالة، لجأت الحركات الإرهابية إلى أقصى وحشية ممكنة تضرب وتدمر كل ما عداها، في حالة من التشويش في الرؤية والخطط.. والفكرة هنا هي نشر الذعر عبر الصورة للحصول على أقصى تأثير معنوى ممكن، لأن التأثير المادي المباشر هو في الغالب غير مؤثر.. فلم يعد الغرض هو الضرب المباشر الموجع للعدو، لأن هذا لن يحدث، بل صار الغرض هو ضرب أي هدف ممكن بطريقة وحشية وتصويره لتعميم الرعب على الناس ورفع معنويات الإرهابيين..

ومثلما أن الصعوبة الأولى أدت بالإرهاب إلى تقوية عدوه الأساسي (أمريكا)، فهو هنا بهجومه العشوائي الوحشي، جعل من حق عدوه أن يمارس إرهاباً ضد الإرهاب (في أفغانستان والعراق)، ومن جهة ثانية ظهرت العولمة المتوحشة أقل وحشية من الإرهاب، ومن هنا يقوم الإرهاب بتقوية عدوه الأساسي معنوياً كما قام بتقويته مادياً...

إذن، الإرهاب لم يُسقط عدوه ولا العولمة اقتصادياً ولا سياسياً، بل ربما دعم العولمة، مثلما يصف جان بودريار، الذي يرى أن العولمة المتوحشة أنتجت الإرهاب وصنعت قاعدة بن لادن وهجومها المباغت، ليس عن طريق المؤامرة أو التواطؤ أو خطة مسبقة، بل إن شبكة العولمة بهيمنتها وسلطتها أنشأت الشروط الموضوعية لهذه الأعمال الإرهابية العنيفة، وهو إرهاب ضد إرهاب، فليس ثمة إيديولوجيا أو قضية واضحة لكلا الطرفين، سوى أن النظام العالمي الجديد بعد نهاية الحرب الباردة، يتطلب وجود عدو لكي يستمر.. فالتخويف من الإرهاب يعادل الخوف الذي كانت تسببه الحرب الباردة..

وفائض القوة الأمريكي يحتاج للتصريف في حروب تُظهرها بصورة عادلة ومشروعة.. والعدو في هذه الحرب ينبغي أن يظهر بصورة المتوحش البدائي، وربما المختبئ بالكهوف، لتكون الحرب عليه نظيفة وطاهرة ومدعومة شعبياً، والأمريكيون حسب بودريار بحاجة لأن يكونوا ضحايا يتعاطف العالم معهم، فلم يكن أفضل من الهجوم على مركز التجارة العالمي، فهنا تصبح أمريكا هي الضحية وفي حل من دماء أعدائها، ولا مفر من الحرب..

لكن الإرهاب لا يقصد بالقسوة التي يمارسها في حدودها القصوى مجرد الانتقام أو إيلام العدو، بل إعلان المشهد التصويري، أو التصوري في حال السماع دون صورة، حتى يبدو التصور أكثر قسوة من الإرهاب نفسه.. فوسائل الإعلام المرئية تخلق الخيال، تجعله حقيقة أكثر من الحقيقة.. إنها الصورة حين تكون أكبر من الواقع.. إنها (ما فوق الحقيقة) حسب تعبير بودريار!

ماذا تفعل الصورة في أذهاننا وخيالاتنا؟ تتحول الصورة إلى أصل، والأصل إلى عاكس للصورة، وتغدو الحقيقة انعكاساً للصورة، والخيال أصلاً للواقع.. فالصورة جزء بسيط من أحد مستويات الحقيقة المرئية أو البصرية.. لكنها بالشحن النفسي والمعنوي تصبح مستديمة في الخيال ومسيطرة على الذهن فتصير أكثر حقيقية من الحقيقة! وهذا يجعل صورة الإرهاب أكبر من الإرهاب، وصورة الجنس أكبر من الجنس، وصورة المتعة أكبر من المتعة نفسها.. فيصبح الخيال هو ذات الشيء، بينما الواقع شيئاً مفقوداً.. فالوقائع التي لا تلتقطها الصورة تعتبر غير موجودة! أو كما تقوم فلسفة بورديار: (الأشياء لا تحدث إذا كانت غير مرئية)..

هنا يكون الإرهاب أكثر حقيقة من حقيقته؟ إنه تداخل التفكير مع الصور المتتالية للعنف ومع الخيال.. فالخيال رغم أنه أقل واقعية من الواقع، فهو أكثر استمرارية، وهو الذي يبقى في أذهاننا.. فبقاء صور العنف في الخيال وتفاعلها في بيئة الهيمنة الإعلامية، يجعل الحدث مكثفاً أو يجعله حدثاً أكبر من الحدث نفسه في المخيلة.. يجعل صورة الإرهاب أقسى من الإرهاب، وتغدو صورة الإرهابي أقسى من حقيقته.. وهنا يستمرئ الإرهابي هذه المخيلة ناشراً أكثر صور ممكن للقسوة!



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد