Al Jazirah NewsPaper Thursday  30/10/2008 G Issue 13181
الخميس 02 ذو القعدة 1429   العدد  13181

استيعاب الدروس بين إدراك قيمة الواجب وحجم التجارب
سلامة بن هذال بن سعيدان

 

إن من الحكمة ألا يقع الإنسان في الخطأ مرتين، وجماع الحكمة ألا يخطئ مستفيداً من أخطاء الآخرين، حيث إن استيعاب الدروس واستخلاص العبر من مواقف الحياة وأحداثها هي التي تجعل الإنسان يجد في ممارسته ما يمنعه من تكرار الخطأ،

وفي مشاهدته وقراءته ما يرشده إلى أن يتعظ بغيره، ولله در القائل:

وفي غابر الأيام ما يعظ الفتى

ولا خير فيمن لم تعظه التجارب

ومن هذا المنطلق فإن أخذ العبرة على ضوء الاستفادة من الأخطاء يعني الخضوع للامتحان من خلال التجربة، ومن ثم استيعاب المواعظ والعبر بالشكل الذي تتحقق معه الاستفادة من التجارب وقطف ثمار الخبرة، كما أن غاية الحصافة ألا تكون التجربة فيما يقع للإنسان أو يرتكبه من خطأ، بل في كيف يتصرف حيال هذه التجربة والاتعاظ من ممارسات الآخرين، وقد قيل: التجربة معلِّم شاذ، تمتحنك أولاً ثم تعطيك الدرس، وقال أبو عبيدة عامر بن الجراح: تعلم من أخطاء الآخرين.

وما ينطبق على الأفراد، ينطبق على الشعوب، والعمل الفردي يعزز العمل الجماعي وتظهر محصلة الأول على الثاني، متدرجاً ذلك من مستوى إلى آخر حتى مستوى الشعب الأمر الذي يطرح ثماره وتتضح آثاره على واقع هذا الشعب ودرجة استفادته من تجاربه ودروس ماضيه بما يعطي صورة حقيقية وترجمة حية لمجمل استفادة أفراده وخبرتهم، وعن طريق الخبرة يمكن استنتاج الحكمة، وبفضلها تكتسب المهارة التي تمهد الطريق إلى النجاح والفوز المطلوب، ومن لم يعظه التاريخ وتجاربه والزمن ونوائبه، فليس له من واعظ.

والشعب إذا ما تهاون في أمور دينه وجنح المنتمون إليه إلى حياة الترف والانغماس في الملذات مع طغيان حب المادة وتجاهل القيم عندئذ يكثر بين الناس اتباع الهوى، ويأخذهم الطريق بعيداً عن الهدى، ناظرين إلى الأمور من زوايا عاطفية وتبعاً لرغبات ذاتية، مقدمين المصالح الخاصة على المصلحة العامة على النحو الذي تغيب معه معطيات الخبرة، وتحتجب معها مضامين العبرة، وما يعنيه ذلك من ترجيح كفة الإيحاءات الدونية، وتغليب الأفكار المستوردة على الاعتبارات السامية والأهداف البعيدة.

والتجارب فيها لقاح العقول، والاستفادة منها مشروطة باستخدام هذه العقول، وقياس أحداثها بمقاييس الأفضل والمفضول والصواب والخطأ، والتعويل على العبرة والموعظة إزاء كل ذلك، بما يضمن الخروج بالدروس المفيدة واحتساب الزمن على هذا الأساس، وبالتالي تتم السيطرة على حركة التاريخ، وتخضع أحداثه للتصنيف والتقويم.

ويأتي الجهل على رأس قائمة الآفات التي تحرم الشعوب من الاستفادة من تاريخها، وتحول بينها وبين استيعاب دروسه، بحيث تمر الأحداث مروراً عابراً دون التوقف عند مفاصلها، وتقدير منازلها، كما يدخل في هذا المفهوم الانشغال بنشاطات دونية واهتمامات هامشية، تقتل الوقت من جهة، وتصرف النظر عن استعراض أحداث التاريخ من جهة أخرى، وتكون سببا في غياب العبرة، وتجاهل ما حفلت به هذه الأحداث من تفاعلات وسيطر عليها من مواقف وتحولات.

ونحن في هذا البلد الذي كرمه الله بأن جعله قبلة للمسلمين، وأسبغ عليه من نعمه ما يعجز عن ذكره الذاكرون، ويُقصِّر عن شكره الشاكرون، لسنا في منأى عن حسد الحاسدين وأطماع الطامعين، مما يتطلب من الجميع أن يكونوا دائما تحت الاختبار وفي حالة اعتبار، وبالعودة إلى الوراء وتطبيق هذه القاعدة على الأزمات التي تعرضنا لها أو حدثت على مقربة منا، وخيَّمت بظلالها علينا يتضح بجلاء ما مدى الاستفادة من التجارب وأخذ العبرة من ثنايا الخبرة أو القصور والتقصير في هذا الجانب.

وقد كُتب على منطقتنا ألا تنتهي من أزمة حتى تدخل في أخرى، فقبل أن يتبدد ضباب أزمة الخليج الثانية، ويتلاشى بعض آثارها، استيقظ العالم على وقع أزمة جديدة، اندلعت شرارتها في مكان قصي، واتخذت من منطقة الخليج العربي وما حولها مسرحا لأحداثها، وهذه الأزمة هي تفجيرات سبتمبر وإعلان أمريكا الحرب على الارهاب مدعية ظلما نسبة ذلك إلى الإسلام والمسلمين، رغم ان المسلمين هم أول ضحايا هذا الارهاب الذي جعلت منه أمريكا حجة لغزو أفغانستان وما أعقب هذا الغزو من شن الحرب على العراق تحت ذرائع كاذبة وحجج واهية.

وفي خضم هذه الموجة الإرهابية تعرضت المملكة لإرهاب منظم، نفذه فئات فاسدة في فكرها، ضالة في توجهها، ويقف خلفها جهات مشبوهة لها مآرب فكرية ومطامع سياسية، ولكن الدولة بفضل قيادتها الواعية وقواتها الأمنية الفاعلة وشعبها الوفي، استطاعت احتواء الفتنة وإبطال كيد من يغذيها، إلا ان هناك دروساً يلزم استيعابها والاستفادة منها، وهذه الدروس تتمحور حول طبيعة الارهاب وأهدافه، ومن يقف خلفه؟ وكيف تغلغل في الداخل؟ مع التأكيد على حالات الاختراق الفكري والأمني، وكذلك جوانب الإهمال والضعف في التربية بالنسبة للأحداث المغرر بهم، وتلك الحالات التي يتذمر أصحابها من ظلم المجتمع وغبنه، وأين ما كان هؤلاء من دعاة الفكر التكفيري وأصحاب المذاهب الهدامة والملل والنحل المنحرفة، وما هي طرق الوقاية وأساليب الحصانة من هذا الكم من المنغصات الأمنية؟، وعلى ضوء ذلك يتم تحديد حالات القصور والتقصير وجميع مواطن الضعف لمعالجتها والتخلص منها.

وقد أثبتت وزارة الداخلية ممثلة في وزيرها والقائمين عليها وقواتها الأمنية من خلال سلسلة القيادة استيعاب الدروس والاستفادة من التجارب بالشكل الذي مكَّنهم من أخذ المبادرة والتنقل من نجاح إلى نجاح ومن نصر إلى نصر حتى تمت السيطرة على النشاطات الإرهابية واستئصال شأفة الإرهاب، بما في ذلك تصنيف الجرائم الوافدة وتمحيصها معلوماتياً، ومواجهة جريمة الفكر المنحرف، وتعقب أصحابها ميدانياً وتقانياً لقطع الطريق على كل من يحاول العبث بأمن الوطن وتهديده.

ومن جهة أخرى فإن احتلال العراق وما نشأ عنه من واقع جديد شكل خطراً إضافياً وتطوراً جديداً في مسار التهديد، بحيث اتسعت الدائرة، وتنوعت الحالات وتعددت الاتجاهات وتغيرت المعادلات، بوصف اختلال الأمن في العراق وإضعاف هذا البلد، يعتبر تعزيزا لأمن إسرائيل وإيران، وتهديدا لأمن دول الخليج العربي مهما كانت الجراح لاتزال مثخنة والذكريات محزنة، إذ إن من المصلحة الوطنية القومية أن يبقى العراق متماسكا وقويا إلى حد ما مع اعتماد سياسة توفير قوة ردع عالية لكبح جماحه ودحر تهديده، والقدرة على إجهاض أية ترتيبات معادية يمكن أن يقدم عليها مع الاستفادة من قوته في وجه التوسع الإيراني والتهديد الصفوي والمد الثوري الأكثر خطورة.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر وحيث إن موضوع الحديث يتعلق بأهمية استيعاب الدروس والاستفادة من الأخطاء، واعتبار هذا الأمر يشكل إدراكا للواجب وإحساسا بالمسؤولية واستثمارا للتجربة فإن أزمة الخليج الثانية التي مضى عليها عقدان من الزمن كشفت وقتها عن نقص في موقف القوة العسكرية، فماذا تم بالنسبة لهذه القوة كما وكيفا؟. وهل ثمة زيادة في تشكيلاتها وتوسع في تنظيمها؟ وماذا دخل على أسلحتها من تطوير وتحديث بحيث تواكب مستجدات العصر وطفرة التسلح المتسارعة التي يفترض أن يدخل عليها التغيير كل خمس أو عشر سنوات، مع الأخذ في الحسبان أعمال التدريب والصيانة وجميع عناصر اكتمال الجاهزية لمواجهة أي طارئ، خاصة وأن التهديدات الماثلة والمحتملة، تستدعي وجود قوة عسكرية فاعلة، تتوفر لديها خاصية الردع، ومؤهلة لتجاوز المستوى التقليدي إلى المستوى الأكثر ردعا الذي يتحقق معه أمن التهديد على ضوء ما يتملك الخصوم من أسلحة.

وطالما أن التهديد الإيراني في نزعته الصفوية وقوميته الفارسية وتطلعاته الثورية وطموحاته الإقليمية يستند الآن إلى قوة عسكرية تكاد تكون نووية، فإن تهديده لأمن دول الخليج العربي يتخذ أبعاداً بعيدة وله مسارات عديدة تتجاوز التهديد المرحلي إلى التهديد المصيري، بحيث يجعل من القوة العسكرية مظلة لحماية التهديد الفكري والمد الثوري، وهو أمر باتت معه لزوميات الأمن الوطني والقومي لدول الخليج العربي بخاصة والأمن القومي للدول العربية بعامة تستلزم أن يظل العراق صامداً في وجه هذا الخطر الذي يتربص بالأمة من أجل التصدي له والحيلولة دون امتداده واستفحال أمره وتعاظم خطره، إشباعاً لدوافعه الثورية ومطامعه الإقليمية وكما قال الشاعر:

إذا فزعنا فإن الأمن غايتنا

وإن أمنّا فما نخلو من الفزع

وشيمة الأنس ممزوج بها ملل

فما تدوم على صبر ولا جزع

ومن الحكمة الاتعاظ من سوابق إيران في المنطقة وطموحها القديم في تصدير ثورته، ومن الخبرة تتولد العبرة، وفي تجارب الماضي دروس وعبر يسترشد بها، والمؤمن ما يلدغ من جحر مرتين، وكفى بالزمن وأحداثه واعظاً، ومن فاتته الاستفادة من ماضيه فلن يفلح في مستقبله، ولن يبلغ أمله. وفي السياق نفسه، ولكن في صورة مختلفة فإن الأزمة المالية التي هزت الأسواق العالمية في الأيام الماضية، ولا يزال مفعولها سارياً، وتأثيرها يعصف بهذه الأسواق ليست حدثاً عارضاً ولا الصدفة، بل تعتبر نتيجة طبيعية لتراكمات مالية سابقة ولها ذيول لاحقة، وتحييد آثارها السلبية والاستفادة منها عن طريق استيعاب الدروس واستلهام العبر، يؤكد سرعة الاستجابة والتكيف مع الحدث والتعامل معه بحكمة والربط بين الأقوال والأفعال لإشاعة الثقة والطمأنينة بين الناس.

والسياسة المالية الغربية تهدف إلى مضاعفة الربح من خلال مضاعفة الربا على النحو الذي يضاعف أرصدة الشركات ويملأ جيوب أصحابها على حساب المستهلك، وما يجسده ذلك من رأسمالية متطرفة تتجسد معها طبقية الثروة بكل ما تعنيه من استغلال واحتكار، ومن هنا فإن صور التعامل الربوية عادة ما ينجم عنها محق للبركة، وما مشكلة الرهن العقاري والإفراط في التمادي في حرية التجارة والإحجام الحكومي عن التدخل في السوق إلا القشة التي قصمت ظهر هذا السوق من حيث أريد له أن ينهض.

ولعل في هذه الأزمة المالية من النذر ما يجعل دعاة التقليد الغربي والمبشرين بمعجزة الرهن العقاري والسوق الحر في صيغتها الرأسمالية وهيئتها الربوية يعيدون حساباتهم، ويتعظون من أخطاء الآخرين، مدركين أن جوهر الحكمة هو الاستفادة من تجربة الغير، وأن الدين الإسلامي ونظامه المالي فيه الترياق المعافي والدواء الشافي من جميع آفات الرأسمالية وعلل الاشتراكية.

والرهن العقاري في صيغته المستوردة يشوبه الكثير من الشوائب التي لا تتواءم مع طبيعة مجتمعنا، وتتعارض مع مبادئ ديننا، ومهما ساهم في إيجاد الحل للمشكلة السكنية فإنه يخلق مشكلات اجتماعية ومصاعب إجرائية، والحل الصحيح والمريح يكمن في اهتمام الدولة وجديتها بهذه المعضلة وفرض إرادتها في سبيل إيجاد حلها، وإذا توفرت الإرادة الصادقة فبالإمكان تحقيق ذلك من خلال الإسكان الحكومي والقروض المعطاة من قبل البنوك الاستثمارية التابعة للدولة، وكذلك القروض طويلة الأجل التي تقرضها البنوك الوطنية والشركات العقارية، مع وضع الضوابط الحاكمة والأنظمة الملزمة التي تتفق مع ما يدعو إليه الدين وتضمن حق المقرض وخدمة المقترض.

وسيطرة الدولة على البنوك عن طريق مؤسسة النقد ومراقبتها للسوق وتدخلها عند الحاجة يمثل ضرورة حتمية، حتى تنضبط البنوك وتستقر السوق، وتجري التعاملات البنكية والتداولات المالية في بيئة آمنة خالية من الغش والصفقات الوهمية والمضاربات المطلقة، وفي الوقت نفسه فإن حرية السوق يتعين أن تكون مقيدة ومحمية من مظاهر السواد وجشع الاحتكار والاستغلال، والنعم سابغة والمنافع جامعة، وزيادة النعم مرهونة بشكرها، وقضاء الحوائج والتنفيس عن الناس ضرب من ضروب الشكر، والنظام المالي في الإسلام كفيل بإحقاق التكافل الاجتماعي والتوفيق في المساعي وقد قال الشاعر:

وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهمُ

لما رأيت بني الإعداد شاكينا

فإن تعش تبصر الباكين قد ضحكوا

والضاحكين لفرط الجهل باكينا

ومن أدرك أهمية الواجب وقيمة الإحساس بالمسؤولية، وتوفر له قدر من العقل خليق به أن يغذي عقله من التجارب وأن يستفيد من المواقف ممتطياً الخبرة لأخذ العبرة وجاعلاً من مشاهداته وقراءاته سبيلا لتصحيح ممارساته مع الاستفادة من أخطاء غيره، وتجنب تكرار الأخطاء.

اللواء الركن (م)


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد