Al Jazirah NewsPaper Saturday  08/11/2008 G Issue 13190
السبت 10 ذو القعدة 1429   العدد  13190
أحلام تائهة
د. عبدالله بن سعد العبيد

شئنا أم أبينا، قبلنا أم رفضنا، هي كذلك أحلام وردية ذات لون صافٍ لا يخالطه تزييف أو تدليس ملون أو غير ملون، قدمتها في ريعان الشباب ضمن أحاديث عابرة طفولية بريئة، كنت أعتقد أنها أبعد ما تكون عن أعين التزييف الإنساني الملونة بعشرات ألوان الطيف،

عشتها بعد أن نسجت لها ثوباً بريئاً بسيطاً! حملته بكل ألوان الأحلام الوردية الصافية التي ربطتها بمستقبل آمن عاطفياً مستقر اجتماعياً، عشت بدايات تحقيقها وما تصيبه من قشعريرة هي أقرب للشعور بالزهو والسمو الصافي بعيداً عن مخططات اللئام وأنواع مخدرات الثناء.

أحلام وردية صافية! حزمة من المواقف والمشاهد والرؤى من واقع الحال الاجتماعي والثقافي والإنساني مما يدور في خلجات النفس الشابة الصغيرة التواقة للهدوء والسكينة والسرور والفرح... هكذا هي ولا تزال، واستمر الزهو والسمو ليس إلى وقت طويل، فسرعان ما عكره جملة من الواقع الأليم والطبيعة غير الوردية.

ألوان جديدة دخلت فعكرت صفو وبهاء وسمو اللون الوردي، ألوان من الألم خالطت تلك الأحلام فحولتها إلى كوابيس فاجعة مرعبة، عدت؛ علّي أسترشد ببعض مما علمتني إياه الحياة فأحول تلك الألوان المليئة بالكدر والشر والشقاء حيث شهد لي كثيرون، على الرغم من صغر سني، بقدرتي على رسم صور حية ناطقة من الإبداع المفعم بالحقيقة؛ لأنني أزعم أنني أحمل قلب المؤمن، وبصيرة الحكيم، وقلم المثقف، وموهبة الإداري، وغرور المشاهير، وأنا - كما يقولون - في صف الحق والفضيلة دائماً؛ لأنني صاحب مبدأ، وأصحاب المبادئ لا يموتون، فإن رحلوا خلدتهم تلك المبادئ، لكنني لم أستطع التغيير؛ فالواقع لا يؤمن بالمبادئ، ولا يعترف برسومات الإبداع، إنه الواقع الذي لا يعترف إلا بالخنوع له والرضوخ لأوامره مهما استغاث الباحث عن الحب المنتظر للذاته.

لم أدرك حينما قيل عني: (تختلف معه أو تتفق حيال مواقفه وآرائه، لكنك ستحترمه حتف أنفك؛ لأنه موضوعي، يستنطق اليسار ويستجوب اليمين؛ ليكمل هدفه باستشهاد المنطق على صحة النظرية أو الفكرة، موائماً بين مختلف الأطياف الثقافية، راصداً بصدق مشاعره، أو مشيداً باجتثاث خطأ، أو هاتفاً لحق، نائياً بنفسه عن الباطل. صدقه ليس في صالحه في زمن العجائب والتملق، الزمن الذي لا يرتقي فيه غالباً إلا من كثر كذبه، وبان إفكه، وفاحت رائحته، وصادم مجتمعه بالعار والانبطاح، وغالبية من حوله يشهدون لفكر الإثارة، ولو على حساب كل قيمة أو مبدأ! إلا من وفقه الله لاحترام الكلمة، وتعظيم الدين، والوفاء بمواثيق الحياة).

لم أدرك أنني كنت أقع ضحية تضخيم الذات في سن صغيرة، عجباً، جميع ما ذكر ينطبق على فتى يافع يانع يبحث عن تحقيق حلم وردي بمقاس سنوات عمره المحدودة، لم أدرك أنني بهذا الوصف التعظيمي أقع فريسة لموقع محتوم لم أختره.

عينان غائرتان، وسمرة خفيفة، ووجه شاحب، وحياء غير مصطنع، يرصد بسهولة على سحنتي حيرةً محببةً إلى النفس تكسبني البراءة والطيبة، تلك هي الصفات التي أكسبني إياها ذلك المنزلق البليد الذي ارتضيت به راضياً مرضياً، منزلق المسؤولية الذي لبسته منذ نعومة أظفاري، ذلك المنزلق الذي لا يرحم التقصير ولا يسامح النقص، لا يحق معه حتى مجرد العودة إلى أحلامي الوردية، حتى وإن كانت من نسج اليقظة، يسمح لغيري بالتطفل على صفحات حياتي، ويسمح لآخرين بالإمعان وإشباع نهم النظر في أسطر مسحتها نفحات التاريخ الساخنة من صفحات كتابي، ويمضي وقتي وأنا بين متطفل وغاز لأسطر حياتي وبين بحثي المستميت الذي بدأ يستكين عن تلك الأحلام، أرى من حولي وهم يجيدون اقتناص الفرص، ويتسلقون تلال النفاق، ويروجون الأحقاد ويخفون أقواس القزح التي تحمل كل الألوان عدا الوردي والأبيض! لم يعد يعجبني أني مصاب بداء النسيان إذا نسيت إساءة،، لم يعد يعجبني أنني مصاب بهذيان المحبة والوئام والخوف على المستقبل الذي لا يقدره إلا من سما بعقله، وأرقه هم مجتمعه، واكتحل بإثمد المعرفة، الذي يجلو البصر، ويقوي البصيرة، ويهذب السلوك، لم يعد يعجبني ذلك؛ لبعده عن واقع النفاق أو النفاق الواقعي، واقع المنزلق الذي يرتبط بسلوك ونهج العتمة الذي تلعب به وبمستقبله أوراق ذات لون واحد وأحجار شطرنج لا يمكن التعرف عليها إلا عبر ملامستها والاعتياد على حفظ أماكنها المتغيرة على الدوام.

حتى حلم اليقظة الذي أشكله متى ما رغبت لم يعد ملكي؛ فقد أصبح الحلم ممنوعاً نهاراً وليلاً، هو حلم يبحث عن تحقيق جزء منه، يبحث عن الطريق إلى بوابة الانعتاق من ذلك الجو المشحون الملبد بغيوم الزيغ والزيف، غير المخترق بأشعة الحق إلا على استحياء شديد، متسائلاً: مَن ألبسني هذا الثوب ومَن طرزه ومَن خاطه؟ ألم يحن الوقت لأنزعه عن جسدي وأعيش حياتي كسائر خلق الله؟ ألم يعد بإمكاني أن أعيش واقعي الذي أردت دون نفاق ودون إتاوات؟

إن لم يحن الوقت لاستدراك ما فات فلعلي أعيشه فيما تبقى من عمر.

أود أن أعيش الحلم الذي ارتبط بالغابات العذراء والسواقي الصافية وتناغم أمواج البحر وصوت البلابل، أعيش حلم الطفولة البريء، أترك العنان لسجيتي وأفلت حبال سليقتي لأعيش كغيري ممن أعطتهم الحياة ولم تبخل عليهم.



dr.aobaid@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد