Al Jazirah NewsPaper Thursday  13/11/2008 G Issue 13195
الخميس 15 ذو القعدة 1429   العدد  13195

المتنبي بين هرقليطس وديمقريطس
عبدالرحمن بن سعود الهواوي

 

ورد في موسوعة الفلسفة لعبدالرحمن بدوي (1984م): أن هرقليطس فيلسوف يوناني سابق على سقراط، قال بالتغير الدائم.. والراجح أنه ازدهر (أي كان في الأربعين من عمره) حوالي 500 ق.م. وشاع في العصر القديم القول: إن ديمقريطس كان (يضحك) من حماقة بني الإنسان، بينما هيرقليطس يبكي منها، فسمي ديمقريطس بالفيلسوف الضاحك، وهرقليطس بالفيلسوف الباكي.. وكان هرقليطس يزدري غالبية الناس.. ومن أقواله: (أناس آخرون لا يعلمون ما يفعلون وهم يقظى، تماماً كما ينسون ما يفعلون وهم نيام)، (الحمقى حين يسمعون يكونون مثل الصم. والمثل يصفهم فيقول: رغم أنهم حاضرون هم غائبون)، (الحمير يفضلون سقط المتاع على الذهب)، (الأحمق يتهيج لأي قول).. أما أحمد بن الحسين الجعفي، الملقب بأبي الطيب المتنبي الذي هو شاعر العرب الأكبر فقد ولد في عام 303هـ الموافق لعام 916م، وقتل في عام 354هـ الموافق لعام 966م. يقول الدسوقي (1408هـ - 1988م): قال ضياء الدين بن الأثير في كتابه (الوشي المرقوم): قال لي القاضي الفاضل عبدالرحيم بن علي البيساني (596هـ): إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس.. ولقد صدق فيما قال. يقول الدسوقي: لا أظن ابن الأثير قد بعد عن الحقيقة، فشعر أبي الطبيب يعكس بصورة جادة مشكلات المجتمع العربي في القرن الرابع الهجري.

وأحداث الدولة الإسلامية في تلك الحقبة.. ويقول أرسلان (1982م): المتنبي أحمد بن الحسين الكندي الجعفي من كبار فحول الكلام الذين لم تنجب الإنسانية أمثالهم في آلاف السنين.. وذلك لأنه ليس هناك شاعر مثله اتسع في فتوحات الكلام، وتساوى في فهم شعره الخاص والعام.

لا يوجد معنى تبحث النفس عنه لتجد له قالباً لائقاً إلا وجد الإنسان عليه بيتاً من شعر المتبني.. فإذا قيل إن المتنبي رفيق كل مفكر، وكهف كل متعمق، وشيخ كل واعظ، وحلية كل لافظ، وعمدة كل خطيب، وخزانة كل جوال في المواضيع، وإذا قيل إن العقل السليم والمنطق السديد لم يألفا في أدمغة أهل الأرض قاطبة ممن أوتي الحكمة شعراً والبيان سحراً مثل دماغ أبي الطيب فلا يكون هذا القول مفرطاً، ولا يكون صاحبه مسرفاً. وقد أجاد المتنبي ككل شاعر كبير في مختلف الموضوعات، فليس باب من أبواب القول إلا وقد جاء فيه بالمعجز.

لا ندري بما سننعت به أبا الطيب، هل نقول عنه إنه مثل ديمقريطس، فيلسوف ضاحك كان يضحك على ما آلت إليه أمته في عصره، أم نقول عنه مثل هرقليطس (فيلسوف باكٍ) كان يبكي على سخف عقول الناس في زمنه، أم أنه جمع بين الوصفين، أم أنه كان غير ذلك، وماذا يمكن أن نطلق عليه لو أنه وجد في عصرنا وشاهد ما وصلت إليه حالة أمته العربية الإسلامية من قهر ومذلة وأنها أصبحت خارج التاريخ البشري فهل سنطلق عليه الشاعر الضاحك الباكي المجنون؟

لقد أضحك أبو الطيب إبله على أناس وقادة أمته في عصره حيث قال:

ما ِزلْتُ أُضحكُ إبلي كلّما نظرتْ

إلى مَن اختضبت أخفافها بدمِ

أُسيرها بين أصنامٍ أُشاهدها

ولا أشاهدُ فيها عِفّة الصَّنمِ

وخلط بين بكائه وضحكه عندما شاهد المتناقضات بمصر في عصر حاكمها كافور الأخشيدي فقال:

وماذا بمصر من المُضْحكات

ولكنّهُ ضَحِكٌ كالبُكا

بها نبطيّ من أهل السَّوادِ

يُدرّسُ أنسابَ أهل العُلا

حتى كافور الأخشيدي كان يضحك على من يخدمه ويطيع أمره من علية القوم حيث قال أبو الطيب:

في جسم أروعَ صافي العَقْلِ يُضحكه

خلائقُ الناس إضْحاك الأعاجيبِ

حتى دموع أناس عصره شك فيها أبو الطيب حيث قال:

إذا اشتبهتْ دموعٌ في خدودٍ

تبيَّنَ مَن بكى مّمن تباكى

وحتى جواري والدة سيف الدولة في بكائهن على موتها لم يعرف المتبني هل دموعهن دموع حزن أم دموع دلال وغنج حيث قال:

أتتهنّ المصيبةُ غافلاتٍ

فدمعُ الحزن في دمْع الدَّلالِ

يقول العكبري في شرحه لهذا البيت: أتتهن المصيبة على غفلة فبينما هن يبكين دلالاً بكين حزناً، فاختلط الدمعان، فهن يبدين الدلال مع الحزن، والذلة مع الحسن. وهذا من أبدع المعاني، ولو لم يكن له في ديوانه إلا هذا لكفاه.

****

المراجع

1- الدسوقي، عبدالعزيز: (1408هـ - 1988م): (في عالم المتنبي)

دار الشروق - القاهرة.

2- أرسلان شكيب؛ (1982م): أبو الطيب المتنبي، حياته وشعره.

(المتنبي بين محاسنه ومباذله) المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان

الرياض 11642 ص. ب: 87416

dr.A.Hawawi@hotmail.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5834 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد