Al Jazirah NewsPaper Thursday  13/11/2008 G Issue 13195
الخميس 15 ذو القعدة 1429   العدد  13195

رِيحُ الصَّبا في اعتدالِ الزَّمان
أ. د. عبدالعزيز بن محمد الفيصل

 

تتنفسُ الصَّبا في أمسيات اعتدال الزمان، فيرقُّ نسيمها ويحلو السمر في أجوائها، فتتسلل نفحاتها إلى القلوب بلا استئذان، فيشرح الصدر، وتحل البهجة، ويرحل العبوس، لأن ريح الصبا ملأت العرصات واكتنفت مسالك الأفئدة، وأحاطت بردهات الديار،..

.. إنها ريح تحمل إلى النفوس السرور، فلا يهبُّ هبوبها في شدة الحر ولا تجود بهوائها في شدة البرد، وإنما تسير رخاء عندما يأتلفُ الليل والنهار، فتتساوى الساعات، وتقربُ الأخوةُ بينهما، فلا يطول هذا ولا يقصر ذاك. إن ريح الصبا تسمو على كل ريح، فلا هي الغربية الهوجاء، ولا الشمال الباردة، ولا الجنوب العاصفة، وإنما هي الشرقية اللينة، المحببة إلى النفوس، لأنها تربأ بنفسها عن ضرر الآخرين.

إن من أتيح له الخروج إلى الصحراء في هذه الأيام، أو نأى بنفسه عن ازدحام المدينة فارتادَ ضواحيها ليعرف فضل ريح الصبا فيوجه وجهته نحو مطلع الشمس فيملأ رئتيه مرتاحاً إلى انسيابها مستقبلاً نفحاتها. إن ريح الصبا تجلب الراحة إلى القلوب والمتعة إلى النفوس، فيهدأ الروع وتطيب الإقامة في المكان، لأن كل حركة من نسميها تحمل بهجة، وكل نفسٍ من هوائها يستقبله القلب بالوجيب الهادئ، ما أحلى نفحات الصبا في أيام غمرها السرور، وليالٍ اكتنفها الهناء.

ما إن يقرب الأصيل في هذه الأيام حتى تتحول الريح إلى الصبا، غامرة القلوب بانسيابها الهادئ، وجريانها السهل، لقد غفل الكثير من الناس عن التمتع بريح الصبا في أيام اعتدال الزمان، لأن المدينة غيبتهم عن التمتع بلطيف هوائها ورقة نسيمها، لقد أحاطت جدران المباني بالمساكن فلم يعد الساكن في المدينة يعرف ريح الصبا، ولا غيرها من الرياح، لأن مكيف الهواء هو الذي يجلب له ما يريد من هواء بارد أو هواء حار، إنما يتمتع به الأقدمون قد توارى بسبب زحف المدينة على طبيعة البلاد، فمتعة ريح الشمال في الصيف زال أثرها ومتعة ريح الجنوب في الشتاء اختفت، لقد كان الأوائل يحتفون بالصبا ويستقبلونها بالبشر، ويترقبون هبوبها بفارغ الصبر، ويعدون سويعاتها أنسا ومتعة، بل إن ريح الصبا إذا تنسمت أنعشت القلوب، وأهاجت الذكرى فتكون سببا في صناعة قصيدة ترددها الأجيال، لقد صنع عبدالله بن الدمينة أجمل شعره بسبب هبوب الصبا، فرددها الرواة في المجالس، وتغنى بها المغنون على امتداد قرون متتابعة وأزمان متطاولة، فكم من مستمع قد بكى من فرط التأثر بقصيدته، أو بسبب أداء المغني لأبياتها، ومن الغريب أن هذه القصيدة تصلح لكل زمن، فتغنى بها العباسيون وملكت الأفئدة، وتغنى بها المحدثون في زمننا فتقدمت على الأشعار الشعبية في أدائها وتأثيرها في الآخرين، إن ريح الصبا لها المقام الأول عندما تسللت إلى قلب ابن الدمينة فأهاجته حتى صنع هذه القصيدة الرقيقة التي عارضها الشعراء فلم يبلغوا ما بلغ ابن الدمينة في شاعريته ورقة عاطفته وسمو خياله وانتقاء ألفاظه المؤثرة في القلوب، فالمعجم الشعري يهبط على الشاعر من خلال خيال خلاق وعاطفة جياشة، فلا يعي الشاعر إلا والألفاظ تنهال على شفتيه يختار منها ما يشاء، والإلهام الشعري له بواعث منها ريح الصبا التي ألهمت ابن الدمينة قصيدته الرقيقة المؤثرة يقول ابن الدمينة:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

فقد زادني مسراك وجداً على وجد

أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى

على فنن غض النبات من الرند

بكيت كما يبكي الحزين صبابة

وذبت من الشوق المبرح والجهد

بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن

جزوعاً وأبديت الذي لم تكن تبدي

ويزيد بن الطثرية تغنى بالصبا وشارك ابن الدمينة في رقة الشعر حتى اختلط الأمر على المؤلفين والرواة في نسبة هذه القصيدة، هل هي لابن الدمينة أو لزيد بن الطثرية، ونحن هنا نقف على متعة الشعر ورقته وتأثيره سواء كانت القصيدة لابن الدمينة أو ليزيد بن الطثرية، فالمغنون عندما يتغنون بهذه القصيدة لا يهتمون بنسبتها وإنما يهتمون برقتها وصلاحيتها للغناء، ومدى تأثيرها في من يستمع إليها.

وإذا كان ابن الدمينة أو يزيد بن الطثرية تهيجهما الذكرى وهما في نجد عندما تهب الصبا فإن الذين غادروا نجداً من الأعراب أو التجار أو غيرهم يتأثرون بالصبا أكثر من ابن الدمينة أو ابن الطثرية إلا أن الشاعرية تختلف من شاعر إلى آخر، فهذا أعرابي تذكر صبا نجد فهاجته الذكرى فقال:

فيا حبذا نجد وطيب ترابه

إذا هضبته بالعشي هواضبه

وريح صبا نجد إذا ما تنسمت

ضحى أو سرت جنح الظلام جنائبه

بأجرع ممراع كأن رياحه

سحاب من الكافور والمسك شائبه

وأشهد لا أنساه ما عشت ساعة

وما انجاب ليل من نهار يعاقبه

ولا زال هذا القلب مسكن لوعة

بذكراه حتى يترك الماء شاربه

والصدى الأدبي لأشعار الصبا وشعرائه صدى واسع وممتد عبر القرون فقد صنع شعراء دواوين شعرية كاملة تأثراً بصدى أشعار الصبا، وأولئك لم يشموا نسيم الصبا ولم يتأثروا بها مباشرة وإنما تأثروا بالأشعار التي قيلت فيها من قبل الشعراء الذين صنعوا الأشعار أو الأعراب الذين نزحوا عن بلادهم وقالوا أشعاراً في الصبا، ومن أشهر الشعراء الذين أكثروا القول في الصبا الشريف الرضي، والأبيوردي والطغرائي وغيرهم فهؤلاء أعجبوا بمهارة الشعراء في صنع قصيدة الصبا وتأثروا بها، وبما أن لديهم ملكة شعرية فقد قادتهم عاطفتهم الشعرية إلى القول في هذا النمط الشعري، فلم يقفوا عند القصيدة الواحدة أو القصيدتين وإنما امتد بهم نفس الشعر إلى صنع الدواوين الكاملة التي تسير في طريق واحد وهو طريق قصيدة الصبا، فهذا الشريف الرضي يقول:

وتغزل كصبا الأصائل أيقظت

ريا خزامى باللوى وأقاح

ويقول الأبيوردي:

تهيم إذا ريح الصبا نسمت لها

بنجد أو الأيكية الورق غنت

وتصبو إلى ليلى وقد شطت النوى

ومن أجلها حنت ورنت وأنت

ويقول:

وسرحة بربا نجد مهدلة

أغصانها في غدير ظل يرويها

إذا الصبا نسمت والمزن يهضبها

مشى النسيم على أين يناجيها

تقيل في ظلها بيضاء أنسة

تكاد تنشرها لينا وتطويها

سود ذوائبها بيض ترائبها

حمر مجاسدها صفر تراقيها

ويقول الطُّغرائي:

أيا حادي الأصغانِ غرِّد فقد بدا

لنا حضن واستقبلتنا صبا نجدِ

وبشرَّنا وعد من المُزنِ صادقٌ

بواصٍ من الحوذانِ والنفلِ الجعدِ

ويقول:

أقيموُا صُدُور العيس واستخبروا الصبا

عن الحيِّ بالجرعاءِ، ما فعلوا بعدي

وما طاب نشر الريح إلا وعندها

أخابير من نجدٍ وعن ساكني نجد

تظنون حالي في الهوى مثل حالكم

وهيهات، أني في الهوى أمة وحدي

وللصبا أثر في العرب الذين نزحوا من نجد واستوطنوا العراق في أيام الفتوح الإسلامية، فهذا لبيد بن ربيعة العامري ينحر الإبل إذا هبت الصبا ويطعم الناس، وكان قد أقسم في الجاهلية أن ينحر كلما هبت الصبا، وقد استمر على ذلك في جاهليته وإسلامه، فكان يصنع جفنتين، واحدة في الصباح وواحدة في المساء، وقد هبت الصبا في سنة شِدة، وكان أمير العراق الوليد بن عقبة الأموي القرشي يعرف عوز لبيد فصعد المنبر وقال: إن هذا يوم من أيام أخيكم لبيد فأعينوه، ثم نزل وأرسل إليه مائة ناقة، وقال أبياتاً يذكر فيها الصبا وهي:

أرى الجزَّار يشحذ شفرتيه

إذا هبت رياح أبي عقيل

أشم الأنف أصيد عامري

طويل الباع كالسيف الصقيل

وفي ابن الجعفري بحلفتيه

على العلاَّت والمال القليل

بنحر الكُومِ إذا سُحبت عليه

ذيولُ صباً تجاوبُ بالأصيلِ


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد