Al Jazirah NewsPaper Monday  24/11/2008 G Issue 13206
الأثنين 26 ذو القعدة 1429   العدد  13206
التنمية واستقلال الثقافة وحريتها
د. عبدالرحمن الحبيب

صدر في الأسبوع الماضي (التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية) عن مؤسسة الفكر العربي، متناولاً واقع التنمية الثقافية في الوطن العربي بهدف بناء قاعدة معلوماتية تساعد في بناء مشروع نهضوي عربي شامل بإرساء قيم المعرفة والنقد والمراجعة وحوار الذات، حسبما أشار التقرير.

وشمل التقرير خمسة ملفات: التعليم (تنوع مؤسسات التعليم العالي، الفرص الدراسية، أزمة جودة التعليم والإنسانيات، العلوم الاجتماعية في صلب التنمية، المرأة في التعليم العالي، وآفاق التطوير)؛ والإعلام (بتجلياته المقروءة والمرئية والرقمية)؛ وحركة التأليف والنشر، والإبداع العربي (في الأدب، والسينما، والمسرح، الدراما والموسيقى، والغناء)؛ والحصاد الثقافي السنوي في العالم العربي متناولا قضايا الفكر والثقافة والحراك الثقافي..

وشمل التقرير على إحصاءات مهمة منها الإيجابي ومنها السلبي.. موضحا ارتفاع عدد الطلبة من 895 ألف طالب عام 1975، ليصل إلى 7 ملايين و164 ألفا عام 2006، بزيادة نسبتها 800%.. وزيادة عدد الجامعات العربية من 230 جامعة عام 2003، ليصل إلى 395 جامعة عام 2008، وارتفعت نسبة الإناث في التعليم العالي من 28.4% من مجموع الطلاب المسجلين لتصل إلى 47.8% عام 2006، وارتفعت نسبة مشاركة المرأة في التعليم الجامعي من 13% -18% من إجمالي هيئات التدريس عام 1975 لتصل إلى 28% عام 2006 بزيادة نسبتها 56%.

بالمقابل هناك مؤشرات سلبية في معدل الالتحاق بالتعليم.. فقد كان منخفضا في معدل الالتحاق الصافي بالتعليم قبل الابتدائي في الدول العربية، حيث بلغ 22% فقط، مقارنة 91% في كوريا و74% في ماليزيا و72% في أستراليا و58% في إسرائيل. بينما معدل الالتحاق الصافي بمرحلة التعليم الابتدائي بالعالم العربي بلغ 84% مقارنة 100% في اليابان و99% في كوريا الجنوبية و95% في ماليزيا. أما في مرحلة التعليم الثانوي فقد بلغت نسبة الالتحاق 68% بالعالم العربي مقارنة مع 90% في اليابان وكوريا و75% في ماليزيا وإيران وتركيا..

ويوضح التقرير مدى انخفاض نصيب الفرد العربي من الصحف المتخصصة، وكذلك الانخفاض في عدد معدل الكتب حيث بلغ كتاباً واحداً لكل 12 ألف مواطن في العالم العربي، مقابل كتاب لكل 500 في بريطانيا ولكل 900 ألمانيا.. بينما تصل نسبة الكتب المنشورة في الأدب والأديان والإنسانيات في البلاد العربية إلى 65% من هذه النسبة الإجمالية.

ورغم الأهمية والفائدة العظيمة لهذا التقرير، إلا أنه ليس الأول من نوعه، فقد تتالت خلال عقد من الزمان تقارير التنمية العربية (الثقافية والإنسانية) بخاصة الصادرة من الأمم المتحدة واليونسكو. أما الجديد في هذا التقرير فهو أنه عربي صرف، وصادر من باحثين مستقلين مقربين من الأنظمة العربية، بمعنى أن التهم التي كانت توجه للتقارير السابقة بأنها تقارير سياسية وليست تقنية، وأنها لا تُقدِّر الأوضاع الخاصة للبلدان العربية.. هذه التهم لا تجد مسوغا لها في هذا التقرير الحالي.

ومن هنا فإن لغة الأرقام التي جاءت في التقرير التي تكشف سوء الوضع المعرفي والثقافي في الدول العربية، لها معان خطيرة، لكنها يجب ألا تخيفنا لدرجة طمسها أو إنكارها أو إدعاء أنها أرقام مبالغ فيها، فكما أوضح النجار (عضو الهيئة الاستشارية لمؤسسة الفكر العربي): (إننا في حاجة إلى التعامل مع الإحصائيات بشكل أكثر انفتاحا في الدول العربية، وتغيير صورة التعامل معها على أنها بمثابة أسرار).

الإحصاءات الإيجابية أو السلبية ليست وحدها مهمة، فلا تغرنك الأرقام وحدها بخاصة الإيجابي منها. فلا بد من تحديد مستويات للإيجابي والسلبي في الأرقام والمعدلات، ولا بد من تحديد مستوى الجودة ومعايير الإيجابي والسلبي فيها.. فما فائدة إذا كان لدينا عدد كبير من الطلاب بينما - كما أشار التقرير- جودة التعليم ضعيفة في الدول العربية بسبب الكثافة الطلابية في الفصول، وضعف الموارد المتاحة (مباني، وتسهيلات علمية، ومكتبات ودوريات وكتب)، وتردي أوضاع الهيئات التدريسية، وافتقار البحث العلمي للتواصل مع احتياجات المجتمعات والاقتصاديات العربية بسبب غياب التخطيط الصحيح، وانفصال البرامج الدراسية عن احتياجات سوق العمل؟ عموماً، الإحصاءات أو لغة الأرقام وحدها هي مسألة وصفية وتحليلها تشخيصي، فلا بد من الانتقال إلى المرحلة التي تليها كالنقد الذاتي والتحليل والتصور المستقبلي ووضع الخطط والحلول..

ومن ذلك نجد أن إحدى المظاهر في عالمنا العربي التي يمكن تسجيلها هو اختلال العلاقة بين الفكر والثقافة والتعليم من جهة والواقع أو التطبيق من جهة أخرى.. وأوضح مثال على ذلك هو عدم التوافق بين مخرجات الجامعات والمعاهد وبين متطلبات سوق العمل مما أدى إلى تضخم ظاهرة (البطالة المتعلمة) وتزايد هجرة الأدمغة العربية للغرب..

ومثال آخر هو التيارات الفكرية في المجتمعات العربية نجدها مشغولة في تمجيد خطاباتها وشعاراتها وعصبيتها الفئوية، وينصب جلّ توجهها للسياسة بمعناها الضيق أو حصر مفهوم الإصلاح بتغيير أو تطوير السلطة وقراراتها الفوقية، وقلما تشمل أبعاداً أكثر عمقاً كالقدرات البشرية المجتمعية وتطوير القدرات المعرفية وطريقة استخدام هذه القدرات؛ وكثيراً ما يهمل تحليل ونقد برامج التنمية وما آلت إليه من فشل. كما يضعف في هذه التيارات الطابع الاحترافي واحترام البحث العلمي وتطبيقاته العملية، من برامج عمل ومشاريع تنفيذية ومشاركة فعَّالة مع مؤسسات المجتمع وتنظيماته.. فأغلب الأطروحات الفكرية داخل المجتمعات العربية تنطلق من رؤية لا تاريخية، ومن تفسيرات مغلقة لنصوص نظرية جامدة..

حسب اليونسكو تعد مناطق الدول العربية هي الأقل إنتاجا للكتاب والمطبوعات بين مناطق العالم بعد إفريقيا! ويرى تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 الصادر من الأمم المتحدة أن سر تقدم (النمور الآسيوية) يكمن في التركيز على التعليم والتربية، فيما تعاني الدول العربية من تخلف مريع في مجال إنتاج المعرفة ووسائل الاتصال وتقنية المعلومات..

ففي المجتمعات الصناعية يتزايد اعتماد كثير من المنتجات والأعمال والخدمات على التقنيات الجديدة للمعرفة (المعلوماتية، البرمجيات، الإنترنت..) لتصبح أهم الموارد الجديدة للإنتاج المعرفي.. بينما يعاني الفكر العربي ممثلاً بالكتاب والأدوات الجديدة لإنتاج المعرفة من المنع وإجراءات بيروقراطية معيقة لنشره، إضافة لضعف القوة الشرائية للقارئ العربي. وتفتقر مؤسسات التعليم والتربية إلى برامج وحصص محفزة للمطالعة والقراءة وإنتاج المعرفة.

أخيراً، هناك تكامل بين الثقافة -التعليمي والفكري- والعلم وبين الاقتصاد والتنمية.. فنهضة المعرفة شرط ضروري للنمو الاقتصادي. ولا بد أن يصاحب ذلك استقلال المعرفة عن المجال السياسي لإقامة مجتمع المعرفة، ولتكون المعرفة بمنأى عن الإعاقة البيروقراطية وعن لعبة السياسة والإيديولوجيا وانتهازيتها وولاءاتها المتقلبة، ولكي لا يقع الباحثون العرب والمؤسسات العلمية فريسة للتكتيكات السياسية.. ناهيك عن أن وضع القيود على البحث الفكري والعلمي من شأنه أن يكبل النشاط العقلي ويخمد الإبداع. وفي كل الأحوال، فإن استقلال المعرفة وحرية اكتسابها ينبغي أن تصان بتشريعات فعَّالة ومحترمة.



alhebib@yahoo.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6848 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد