Al Jazirah NewsPaper Monday  24/11/2008 G Issue 13206
الأثنين 26 ذو القعدة 1429   العدد  13206
لما هو آت
فوق الماء
د. خيرية إبراهيم السقاف

الرحلة طويلة لكنها بالتأكيد ليست أطول من حبال التفكير.. تلك التي تتمرد على المسافة الممتدة من مقبض حفنة رمل في الرياض إلى ملمس جلمود في نسيج جبل (يام) الشامخ في سيؤول عاصمة كوريا الجنوبية، ومن نقطة ماء في أول معبر عن الخليج العربي إلى زخة تبخرت عن صقيع ماء نهر (هن) هناك.. والطائرة توشك أن تسلمنا في محاضن درب الماء طريق الحرير الذي نفض كل كمون الذاكرة وطرح أمام منضدتي عشرات الأسئلة والرحلة تتطوف بنا فوق الماء لنعبر بدول عديدة وكأننا نلقي عليها تحية الفضاء..

كوريا الجنوبية في أذهاننا بلد يصنع العربات والهواتف الجوالة وتعصى على ألسنتنا لغتها.. لكنها وهي تقيم جسرا بيننا وبينها بدعوة لقاء الأدب النسوي الكوري والعربي ما حفزني لأن أدلف من بوابة التجربة وأرتاد جسر التواصل.. برفقتي كانت أديبة من مصر وأديبتان من كوريا.. والسؤال الكبير تراقص بكثير من الدهشة في ذيول آثار ما لقيته في مخاطباتهم قبل السفر من أهداف رسموها كي نكون معا خلف طاولة نقاش ومواجهة عقول أذهلتني بأنها في رؤوس عرفت ما للعربية من قيمة فتعلمها أصحابها حتى إذا ما كنا هناك لم نشعر بغربة بل كأننا بين أهلنا الفارق الذي كان لا يتعدى شأن الطقس الشتوي الزمهريري المطير.. لكنه زجنا في بوتقة الدهشة التي أضرموها في نفوسنا.

في كوريا الجنوبية عملت وزارة الخارجية الكورية لدعم إنشاء الجمعية الكورية العربية للثقافة والآداب والاقتصاد والمعارف.. واحتوتها جامعة هانكوك بجزئها المختص بالدراسات الأجنبية وفي مقدمتها دراسة اللغة العربية إذ أفردت الجامعة قسما أكاديميا خاصا للغة العربية يقوم عليه أساتذة مختصون من الجنسين باللغة العربية فنونها وآدابها.. ينخرط في الدراسة فيها عدد كبير من الكوريين بحيث أصبحوا يتحدثون العربية بطلاقة ويكتبون بها بل يؤلفون ويترجمون من العربية للكورية والعكس تماما.. ما زاد في ذهولنا عزم هؤلاء القوم فقد ترجموا أعمالنا وأوراق عملنا للغتهم دون حاجتهم لأي عربي لأن يفعل عنهم.. والأشد دهشة أنهم يعرفوننا كما لا يعرفنا الأقرب منا.. ويناقشوننا في أعمالنا حيث نسيناها أو طويناها.. لكنهم يفردونها صحائف في سجلات أسئلتهم وخيوط مساراتهم.. ويزيدوننا فرحا وهم يبسطون أمامنا خبرات ثلاثة وأربعين عاما في دراستهم وتعلمهم للغة العربية حتى أن كوريا الجنوبية الآن قد أصبحت تدرس ويتعلم أبناؤها العربية في جهاتها الأربع وقد بلغت نسبة الراغبين هذا العام الدراسي من طلبة الثانوية الذين اختاروا العربية لغة ثانية لهم ثلاثا وثلاثين في المئة من مجموع ثلاثة عشر ألف طالب وطالبة سيتقدمون للثانوية لهذا العام بعد أن انحسرت الإنجليزية واللغات الأخرى درجة بعد العربية في اختيار اللغة الثانية بعد الكورية عند هؤلاء.., ثمة ما زاد من الدهشة أنهم قد قرروا تدريس الإسلام في مناهجهم بدءا من العام الدراسي القادم... هذه المقتطفات التي أثرت لحظاتنا التي قضيناها بينهم جاءت على هامش الملتقى الكوري العربي الأدبي الأول الذي أقامته الجمعية الكورية العربية في رحاب قاعة المؤتمرات العلمية بجامعة هانكوك وقد ظللته عناية سفارتنا العزيزة وسفارة جمهورية مصر العربية وإدارة جامعة هانكوك العريقة.

كانت تجربة لا تخص فردا بعينه وإن مثلها أصحابها، لكنها اتسعت لتشمل الوطن حين يتحول الوطن كتلة انتماء تتساوى به النفس وتندمج في تفاصيلها نبضاته.

فوق الماء من هنا إلى هناك كنت أرسم خطا من الروابط أولها تشابه الإنسان وآخرها تفاوت خبراته تلك التي حين تصب في بوتقات الحياة فإنها المحرك لأن تشق السفن طريقها وتقتحم الطائرات مداراتها وينجو المرء بتفوقه على خسارة ما فاته من معرفة باكتسابه ما تلاه من خبرة.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5852 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد