Al Jazirah NewsPaper Tuesday  02/12/2008 G Issue 13214
الثلاثاء 04 ذو الحجة 1429   العدد  13214
الأبعاد الفنية والدلالية في مجموعة (الظمأ) للجفري (3)
د. حسن بن فهد الهويمل

والتحفظ على الإيغال في المسكوت عنه يتفاوت بتفاوت مستويات الإيغال، والنقاد الأخلاقيون يختلفون حول المباح والمحظور، ولا سيما أن الإبداع السردي وجد متسعاً في الضوابط الفنية واللغوية والأخلاقية الأمر الذي حدا بكثير من النقاد إلى منح

مزيد من الحرية في التعبير بحجة أن ذلك داخل ضمن الرصد الموضوعي على حد {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} ومن المتعذر أن نتقصى أطراف الأحاديث حول جدلية الرصد الواقعي، فالنقاد في جدل متشعب، والنقد الأخلاقي بوصفه منظومة موضوعية لم يتفق أطرافه حول الأمداء المقبولة، والدارسون لرموز الإبداع السردي تفاوتوا فيما بينهم، وهذا الاختلاف يذكرنا باختلاف النقاد الأقدمين حول تفحش الغزل والخمريات عند طائفة من الشعراء ك(ابن أبي ربيعة) و(أبي نواس) وبقدر الاختلاف حول اللغويات وسائر الضوابط الفنية في الشعر فقد اختلف النقاد حول الأخلاقيات، وحتى (الضرورة الشعرية) لم يقبل بها كل النقاد وبخاصة اللغويون منهم ك(ابن فارس) الذي ألف كتاب (ذم الخطأ في الشعر) منحياً باللائمة على الذين أباحوا للشعراء ما لم يبح لغيرهم، ومهما تشعبت الطرق واضطربت المفهومات فإن للإبداع القولي ما ليس لغيره، وعلى النقاد الأخلاقيين أن يعرفوا ذلك ومقولة (الأصمعي) حول علاقة (الدين) ب(الفن) محمولة على ذلك التباين بين الآراء، وفي النهاية فإنه لا بد من سقف تنتهي إليه الآراء وإن كان ثمة اختلاف فإنه في بُعْدِ هذا السقف أو قربه، على أن هناك من حاول كشفه، وهو ما لا يمكن القبول به، والدارس لإبداعيات (الجفري) لا بد أن يمر بهذه المنعطفات، ف(الجفري) في قصصه قارب المسكوت عنه، وهي مقاربة أزعم أنها حذرة، ولكنها تظل مثيرة، والقصص دائما يُعوِّل على الظواهر ولا يحفل بالوقوعات العارضة، ومتى عرفنا أن المبدع قد ينشئ قضاياه ويخلق شخصياته أصبح من الممكن التدخل في البعد الموضوعي، وإشكالية الدارس لمبدع ينتمي إلى تيارات عدة أنه بحاجة إلى المراوحة بين المناهج والآليات والمذاهب.

و(الجفري) لم يكن (رومانسياً) خالص (الرومانسية) ولا (واقعياً) خالص الواقعية، غير أنه يعي تلبسه بأي منزع موضوعي أو فني، وارتهان أي مبدع في منزع إنما هو من باب التغليب، والتنقيب في نتائج الدراسات الموسعة والعمقة لعمالقة الإبداع السردي ك(محفوظ) و(السباعي) و(إدريس) تؤكد هذه المراوحة التي قد لا يسلم بها كثير من النقاد وحين نقطع بأن (الجفري) واحد من أولئك المراوحين لا تعوزنا الشواهد ولكي نحسم الخلاف لا بد من قراءة مجمل أعماله الروائية والقصصية، وهي في متناول اليد بعد أن تفضلت (اثنينية) الخوجة بطباعتها في ستة مجلدات.

ولو عدنا إلى مجموعة (الظمأ) - ونحن عائدون بلا شك- لوجدناها تدور في مضامينها حول المجتمع السعودي، في مرحلة من مراحل التحول.

وتحولات المجتمع السعودي ارتبطت بالتعليم والإعلام والانفتاح، وكل مجمع يتوفر على جذب العمالة والمستثمرين لا بد أن يكون تحوله سريعا وشاملا ومثيرا ومخيفا في آن. والروائيون والقصاص وعوا هذه التحولات ورصدوها واستثمروها، وشخصيات الجفري وأحداثه في مجموعته القصصية ترتبط بهذه التحولات وتنطلق من قعر المجتمع، ولكن انطلاق قد لا يشبه انطلاق غيره مِمَّنْ أسهموا في تشكيل وعيه الفني ك(محفوظ) و(محمد عبدالحليم عبدالله)، وهو وإن كان يلتقي مع هؤلاء في الفنيات وفي تناول العادات والتقاليد والعيوب الاجتماعية، ويختار شخوصه من الطبقات الاجتماعية وما تعانيه من فقر وما تتعرض له من مشكلات زوجية أو عملية إلا أنه يحاول الخلوص من هيمنة الأساطين، وإن كان ثمة تأثر ففي اللهجة الحوارية وشيء من الهيكلة.

ولقد كانت مدينة (جدة) مسرحاً لأحداث قصصه بكل ما تعج به من صخب وحركة وما هيئ لها من تواصل بالمدن العالمية والمحلية عبر البحر والبر والجو، وهي مدينة فاعلة ومهيمنة وقادرة على الإضحاك والإبكاء، وأشياؤها تتسع للتأمل والتذمر، وإنسانها قادر على أن يلعب أي دور يوده المبدع، ولا سيما أن السارد عاش فيها الحلو والمر وخبر الدقيق والجليل.

والجفري المغرم بالتفاصيل يذكرها ويذكر أحياءها وأزقتها وأسواقها القديمة والحديثة وشوارعها وتلوُّنَ الأشياء والأناسي فيها، ويطيل المكث في شواطئها ويستلهم الأمواج ورهبة البحر وغموضه وغدره.

والقاص يستمد لحمة قصصه من أحداث ممكنة وعادية، فهو لا يغرق في الخيال ولا في التخيل، فكل ما يدور بين الشخوص من حوار هادئ أو عنيف مشروع أو محظور يقع مثله بين الأناسي العاديين. والتواصل عبر الهاتف بين المحبين ممكن الوقوع، بل هو الواقع عينه الذي لا يستبعده أحد، وتجذير الحب قبل اكتشاف الذوات وما هي عليه من جمالٍ وصحةٍ وخُلقٍ يأتي عبر مكالمة هاتفية تتبعها مكالمات، حتى إذا تم اللقاء تكشفت الأمور عن عوالم حقيقية وإذا كانت الأذن تعشق قبل العين أحياناً فإن الهاتف أقوى الوسائط، ولقد وظفه (الجفري) بطريقة ذكية في قصته (ناني) التي تجلى فيها اللهاث والقفز والمفاجآت، واستخدمت فيها ظواهر الطبيعة بشكل مثير، فالأمواج واهنة متسكعة، وتردداتها خافقة، والخروم متشابكة معقدة كما شبكة الصياد، والبحر الممتد يمثل (اللانهاية) فحياة الضياع الإفلاس يحكيها البحر والموج وشبكة الصياد، والمتقصي لإبداعات الجفري الروائية والقصصية يلاحظ استثماره للبحر وأشيائه، وهو استثمار يذكرنا بتوظيف الطبيعة لحمل كثير من الهموم، وكأني به يجنح إلى الطبيعة بعد استنزافه للمدنية، من شوارع وأرصفة وعمارات شاهقة وسيارات ترهق بضجيجها، ولو تفرغ دارس لأثر البحر وأشيائه ومفاجآته على روايات الجفري وقصصه لخرج بنتائج ملفتة للنظر، وأحسب أن النقد الحديث قد التفت إلى خصوصيات الطبيعة من صحراء قاحلة وأنهار متدفقة وجبال شاهقة وطبيعة حالمة على الشعراء والسرديين وحتى التشكيليين، والمدنية في الشعر الحديث من الدراسات الموضوعية الملفتة للنظر.

يتبع


لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد