Al Jazirah NewsPaper Friday  12/12/2008 G Issue 13224
الجمعة 14 ذو الحجة 1429   العدد  13224
نوازع
الملل والحلم
الدكتور محمد بن عبدالرحمن البشر

يمر على المرء في حياته فترات يكتئب فيها، ويمل مما هو فيه، وتختلف مدتها وفترات ترددها من شخص لآخر طبقاً لظروفه النفسية والاجتماعية والصحية والمالية، لكنها تمر، ومن قال غير ذلك فربما يكون فريداً. عندما تمل فهل هذا يعني أنك بلغت مناك، أو أنك قد يئست من مبتغاك، أو أن وقت فراغ قد حل بك ولم توفق في ملئه، التفكير والتأمل قد يمحوان جزءاً كبيراً من ذلك، ولكن يظل التوجه إلى البارئ عز وجل أفضل غذاء، وأقرب شفاء، وأنجع دواء.

قد تذهب إلى صديق ليؤانسك، أو تفتح كتاباً ليسليك، ولكن يظل ذلك السراب يلاحقك، وذلك الوهم يجالسك، فإما أن تصرعه بقوة إيمانك، أو يرديك لضعف بنيانك، فالهروب منه دخول فيه، والدخول فيه هروب إليه، فاتركه يفعل قدر جهده، وجاهده بسلاح الصبر، والثقة في الخالق، تنم قرير العين صافي الذهن، خالي البال.

أحتار أحياناً وأتساءل: علام أكتب؟ ولمن أكتب؟ وما عساي أجني؟ وماذا بعد؟ فأجيب: أكتب لأشارك، وتارة لأتسلى، وأحياناً لأفيد، وربما لأستفيد، وأحياناً أمعن التفكير، وأسرح وأمرح، وأطيل وأقصر، وأبسط وأتعمق، وأدنو وأبعد، وفي نهاية المطاف لا جديد؛ فالحال كما هي، وما علينا سوى التفكير وبيد الله التدبير.

تنتابني تلك الدسائس النفسية، والأوهام الخَلقية، والصنائع غير الإرادية، وتزول بعد أن تأخذ مني مناها، وتصب عليّ بلواها، وأنا أقارعها دون ملل، وأواجهها دون خجل، وهذا أمر ليس مهماً، لكن الأهم إن صادفت تلك الضائقة حاجة محتاج عندي، أو حقاً لشخص لدي، وأنا في غمارها قاطن، وفي مرابعها ساكن، أجاذبها وتجاذبني، فألهو عنه بها، فأستنزل من قدره، وأعنفه على فعله، إن كان مما ليس له حول عندي، وليس له ملاذ من البشر دوني.

أذكر أن أحد بائعي العود المتجولين في الرياض طرق باب إحدى الدور، ثم أرسل صغيراً لديه بعينة مما عنده طامعاً أن يشتري منه، فيقدم خدمة مقابل مال، وفي الغالب فإنه يترك أكثر من حقيقة مليئة بالعود وعند من يأنس بهم من زبائنه ليعود في اليوم التالي فيتم الشراء وينتهي الأمر، وكل على قدر استطاعته، وقد صادف أن جاء صاحب الدار فكثر الهرج والإلحاح، وكان صاحب الدار في الحال التي وصفت، فزاد الكيل رشده، وعاتب نفسه وتساءل: لو كان ذلك رفيع قدر عندنا معشر البشر، هل سيرتفع عليه الصوت بمثل ما فعل؟ رغم أنه قد يكون أرفع قدراً عند الله في الدنيا والآخرة، وما استطاع صاحب الدار أن يستريح على فراش النوم حتى قرع نفسه وحقرها ورفع سماعة الهاتف واعتذر وطلب العفو، لا راجياً منه ثواباً، ولا طالباً نوالاً، لكنها مخافة الله؛ فقد يسلط الله عليه من هو أقوى منه.

هذا السلوك الحميد الذي سلكه صاحب المنزل نعمة من الله يسديها إلى من يشاء من خلقة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن المرء يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم).

وفي اليوم الثاني جاء صاحب العود بشوش الوجه مستبشراً بالخير يرجو أن يرى البشر ليزداد بشراً على بشر من دار كلها بشر، فلم يخب ظنه وتمت أربع صفقات في صفقة واحدة: شراء العود من قبل صاحب المنزل، وحوزة المال من قبل صاحب العود، وعمل الإحسان من صاحب الدار، وصبر صاحب العود على الامتحان.

لكن هل يا ترى تستطيع أن تحلم لتكون الأحنف بن قيس أو معاوية بن أبي سفيان، أو أن تكون قاضياً فيما بينك وبين الناس كعلي بن أبي طالب، أو أن تجتمع فيك الخصال الحميدة كلها كرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهذا محال، غير أن الاجتهاد واجب، ومحاولة الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم درب الصلاح والنجاح، وحسن الخلق والإنصاف من الذات على رأس مكارم الأخلاق، وبها تسود الأمم، ويعلو شأنها.

فأعجب من رجل يشهد بأن لا إله إلا الله ويصلي ويصوم ويؤتي الزكاة ويحج البيت، ومع هذا فهو لا يمتثل بما يحمله الإسلام من معانٍ نبيلة ترتبط بعبادة المعاملات، وعلى رأسها الإنصاف من الذات، والعدل في القول والعفو، وتغليب الحق على الهوى.

حجاج بيت الله الحرام عاد الكثير منهم إلى ديارهم بعد أن قاموا بفريضة عظيمة ونالوا بإذن الله مغفرته، وأتمنى أن يحملوا معهم تدريب النفس على فعالية مغالبة الهوى في المعاملات، فلا يغمط الحق بسبب جهل جاهل، أو قوة قاهر، وأن ينصف المرء الناس من ذاته، ويبدأ بنفسه وأهله، بهذا يصبح المجتمع الإسلامي مجتمعاً مثالياً، ويمكنه بهذا سيادة العالم أجمع، وبغيره لن يكون إلا كما هو عليه الآن.

والله المستعان



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد