Al Jazirah NewsPaper Monday  05/01/2009 G Issue 13248
الأثنين 08 محرم 1430   العدد  13248

إلى مَن ليس في قلوبهم مرض (1 - 2)
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

لن أتحدث في هذه المقالة - وأنا أكتبها متجرعاً كأس الألم والحسرة - عن فداحة الجريمة المرتكبة ضد غزة، إنساناً وأرضاً بكل ما عليها وما فيها.ولن أتحدث عن المذبحة الفاجعة المشترك في ارتكابها أطراف مباشرة، وأطراف غير مباشرة،..

تحريضاً وممالأة بنسب متفاوتة يجمع بينها حقد دفين أو نذالة رخيصة، لن أتحدث عن الجريمة ولا عن المذبحة؛ ذلك أن وسائل الإعلام المختلفة توضح ما يرتكب كل التوضيح باستثناء قنوات الخلاعة والمجون، التي يمتلكها أناس محسوبون على أمتنا المنكوبة بهم وبأمثالهم، ثم إن ما ارتكب ليس غريباً ولا جديداً من الذين ارتكبوه مباشرة، ولا من الذين حرَّضوا أو مالأوا على ارتكابه بطرق متعددة، ولن أتحدث عن قرارات أولئك الذين اجتمعوا في مقر الجامعة العربية، وهي القرارات المحكوم عليها سلفاً ولاحقاً بالفشل والوهن؛ ذلك أني قد فقدت الأمل في أي مؤتمر عربي سياسي منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وعندما مدَّ القادة العرب أيديهم متسولين إلى مجلس الأمن حين مذابح الصرب للمسلمين في البوسنة والهرسك كتبت قصيدة ورد فيها:

لمجلس الأمن قد مدُّوا أكفَّهمُ

ساء المؤمِّل والمأمول منقلبا

هل يفرض المجلس الدولي سلطته

إلا إذا استهدف الإسلام والعربا؟

ولن أتحدَّث، أيضاً، عن الكرامة يوم كان لأمتنا كرامة، ولا عن الحياء يوم كان لدى أمتنا حياء؛ ذلك أني قد ترحمت على هاتين الصفتين النبيلتين في أمة تنتسب إلى العروبة أرومة، وتنتمي إلا الإسلام ديناً من قبل.

ترحمت على الكرامة في مقالة عنوانها: (رحم الله الكرامة) نشرت في صحيفة الوطن عام 1423هـ، ثم ترحمت على الحياء في مقالة عنوانها: (ورحم الله الحياء) نشرت في صحيفة الجزيرة عام 1425هـ، ولقد أوضحت أسباب ذلك الترحم على الصفتين المذكورتين حين نشر كل من المقالتين.

ما أريد التحدث عنه في هذه المقالة المختصرة هو موقف الذين يحمِّلون حكومة حماس التي انتخبتها أكثرية الشعب الفلسطيني لتحكمهم، مسؤولية ما ارتكب على أساس أنها رفضت تمديد الهدنة مع الكيان الصهيوني، وهؤلاء يعرفهم المرء بسيماهم كما يعرفهم في لحن القول، يعرفهم من خلال رؤيتهم وما يتفوهون به، أو يكتبونه، في وسائل الإعلام المتنوعة، ويعرفهم، أيضاً، من خلال بوحهم بما في نفوسهم المتشفية في جلساتهم الاجتماعية.

وهو مرض يتناغم، إلى درجة كبيرة، مع المرض الذي أشار إليه الكاتب توني كارون في مقالة نشرها في مجلة التايم الأمريكية بتاريخ 25-12-2008م، وهي المقالة التي اختتمها بقوله:

(إذا نفذ الرئيس عباس تهديده بعقد انتخابات رئاسية.. فسيكون الإقبال عليها بالضفة الغربية ضعيفاً؛ مما سيثير السخرية؛ ولذا فإن الأمل أمام أبي مازن هو اجتياح إسرائيل لقطاع غزة وهزيمتها حماس حتى يستطيع هو استعادة السيطرة على الأراضي الفلسطينية كلها).

ويبقى الحديث عن الفريق الأول، الذي لم يتأمل - فيما يبدو - تاريخ الصهاينة وأعوانهم من المتصهينين التأمل المطلوب، وها هي ذي إشارات موجزة إلى شيء من ذلك التاريخ الإجرامي العنصري المشابه لمذبحة غزة والجريمة المرتكبة بحقها.

يكفي من أراد أن يعرف موقف مؤسس وحدة وطننا العزيز، رحمه الله، من جرائم الصهاينة قبل إقامتهم كيانهم العنصري على أرض فلسطين أن يطلع على كتاب الزركلي (شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز)، وكان من جوانب ذلك الموقف المشرِّف رفض التسليم بشرعية الاحتلال لأي شبر من تلك الأرض التي بارك الله حولها، ويكفيه أن يطلع على كتاب المجرم بيجين، وترجمة عنوانه (الثورة)؛ ليرى أنه، وهو الذي حمل فيما بعد جائزة نوبل للسلام، يذكر بكل اعتزاز وفخر أن إقامة الكيان الصهيوني اعتمدت على ارتكاب الإرهاب، وما ذكره ذلك المجرم تؤيد صحته المصادر التي أرخت لتلك الفترة، ولم يكن هناك وجود حينذاك لا لحركة فتح ولا لحركة حماس.

وفي عام 1956م ارتكب الصهاينة بالاشتراك مع فرنسا وبريطانيا عدواناً ثلاثياً على مصر، وكان موقف الملك سعود، رحمه الله، مع إخوانه وشعبه الموقف الذي تحتمه الأروقة العربية والدين الإسلامي، لا بالعون المادي فحسب، بل تجاوز ذلك نبلاً ونخوةً إلى قطع العلاقات مع العدوتين (بريطانيا وفرنسا) مدة من الزمن.

وفي 1967م باغت الصهاينة العرب بالهجوم الكاسح، بدءاً بمصر، وكان من المفترض أن لا يؤمن غدر العدو، لكن أكثر قادة العرب لا يتخذون من التاريخ دروساً وعبراً، والمهم في الموضوع هنا أن مما ارتكبه الصهاينة في العدوان أنهم أجبروا أعداداً من الجيش المصري على التمدد فوق الأرض، ثم جعلوا آلاتهم الحربية تطحنهم طحناً، وبعد أن أظهرت وسائل الإعلام تلك الجريمة النكراء في السنوات الأخيرة لم يسمع أنه قد أبدي احتجاج على ارتكابها، ناهيك عن إلغاء معاهدة كامب ديفيد أو تعديل بعض بنودها مثل بيع الغاز على الكيان الصهيوني بثمن بخس.

على أن حرب 1967م - رغم خسارة العرب الفادحة نتيجة لها - لم تضعف إرادة قادة بينهم الملك فيصل، رحمه الله؛ ذلك أنه من المعروف أن موقفه الحازم في مؤتمر الخرطوم كان وراء الإصرار على إصدار البيان المشهور المتضمن: لا اعتراف بشرعية الكيان الصهيوني في فلسطين، ولا سلام، ولا مفاوضات مع الصهاينة. كما كان وراء الدعم الواجب، دينياً وقومياً، للصمود أمام العدو الصهيوني. وجاءت حرب 1973م لتزيد البرهنة على عظمة ذلك الملك الحلحيل وتوضحها أكثر فأكثر فيما يتعلَّق بقضية فلسطين خصوصاً، وقضايا أمتنا عموماً. ومن أراد الاطلاع على جوانب من تلك العظمة ففي مذكرات الصهيوني الداهية، كيسنجر، ما يوضح شيئاً من تلك الجوانب، وهيهات لقائد حلحيل مثل فيصل بن عبدالعزيز أن يعترف بشرعية الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، التي أبى والده البطل العظيم أن يقبل وجود ذلك الكيان على شبر من تلك الأرض.

وفي عهد الملك خالد، الخالد الذكر، إخلاصاً وغيرةً، حدث عدوان الصهاينة على لبنان واقتحامهم لبيروت، وكان ذلك صدمة عنيفة لمن تحمل نفسه ذلك الإخلاص وتلك الغيرة.. صدمة كان من نتائجها على نفسه المؤمنة أن ارتفع ضغط الدم لديه - كما قال العارفون ببواطن الأمور -؛ مما أدَّى إلى انتقاله إلى رحمة الله.

كان ما ذكر عن موقف مؤسس وحدة هذا الوطن العزيز، الملك عبدالعزيز، من الصهاينة وكيانهم المغتصب لفلسطين، وموقف أبنائه الملوك الثلاثة الذين خلفوه، لا احتراماً مقدراً كل التقدير لموقفه فحسب، بل اقتناعاً منهم بعدالة القضية الفلسطينية ووجوب الدفاع عنها، على أن الموقف النبيل الأبي لذلك الملك العظيم، كما مواقف أبنائه الملوك الثلاثة الأجلاء، أصبح الآن محل انتقاد مبطَّن لا من كُتّاب معروفي النوايا خارج وطننا، بل من كُتّاب داخل هذا الوطن، وأصبح ما يسمى بالواقعية - وهي المشتملة على الاعتراف بالباطل لأنه هو الواقع - هي وحدها الحكمة السياسية.

وأجدني أتوقف هنا؛ مراعاة لحيِّز الحلقة من المقالة، وأرجو أن يكون الحديث في الحلقة القادمة عن موقفي حركتي فتح وحماس اللذين قادا إلى ما قادا إليه؛ لإيضاح شيء من الحقائق أمام مَن ليس في قلوبهم مرض. والله المستعان في كل وقت وآن.

واستمرت المملكة مؤيدة وداعمة للقضية الفلسطينية حتى الآن امتداداً للسياسة الحكيمة التي رسمها الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - والتزم بها أبناؤه من بعده.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد