Al Jazirah NewsPaper Monday  26/01/2009 G Issue 13269
الأثنين 29 محرم 1430   العدد  13269
المقاومة في غزة.. سمكة في الماء
د. عبد الرحمن الحبيب

 

الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى.. فعندما تفشل السياسة قد تأتي الحرب لتعدل مسارها أو تحرك مسارات جديدة.. للأسف هذا ما تقوله كثير من التجارب السابقة وأدبيات السياسة الكلاسيكية. وإذا كان النظام الدولي وقانونه لم يستطيعا أن يعيدا الأراضي المحتلة لشعب ما، فإن المتوقع من هذا الشعب أن يبحث عن وسائل أخرى، وهذا حقه.

المقاومة الفلسطينية المسلحة اعتبرت أن الاحتكام للقانون الدولي لأكثر من أربعين عاماً منذ نكسة حزيران لم يردع إسرائيل عن الاستمرار في احتلالها ومواصلة قمعها للفلسطينيين.. ومرور ستة عشر عاماً على المصافحة التاريخية بين ياسر عرفات واسحق رابين، لم تؤت ثماراً تُذكر.. فمن منظور هذه المقاومة، ماذا ستكون الخسارة في دخول معركة جديدة إذا كانت حالة الحرب مستمرة منذ بدء الاحتلال؟ ماذا ستكون الخسارة إذا كانت غزة بالأساس محاصرة، ووضع الفلسطينيين بائس لدرجة كبيرة، وفلسطين كلها - عملياً - ترزح تحت نير الاحتلال؟

فاستراتيجية المقاومة هنا تقول إنه طالما أن الحلول السياسية كانت مع المحتل بسبب نفوذه، وأن الاحتكام للقانون الدولي لم يجد نفعاً، وأن الخسائر مستمرة والضحايا تسقط باستمرار، فإنه يمكن اللجوء إلى حرب العصابات والمناوشات المزعجة للمحتل واستدراجه لارتكاب أخطاء وللوقوع في فخاخ مختلفة.

هذه الفخاخ ليست بالضرورة ضربات مادية موجعة للمحتل، بل تأخذ بُعداً معنوياً، بكشف وحشيته أمام الرأي العام العالمي، وهز الثقة داخل مؤسساته المدنية، ورفع معنويات المقاومة وزيادة شعبيتها في مجتمعاتها.. وإذا كان البعض يعترض على هذه الاستراتيجية؛ لأن العملية السياسية مستمرة، وبها بعض النجاحات وهي أفضل من المواجهات الدامية المحزنة التي يسقط بها ضحايا كثيرة وتتوقف بسببها كافة وسائل الحياة الطبيعية الصحية والتعليمية والاقتصادية، فإن البعض الآخر يرى أن مقياس الربح والخسارة بهذه الطريقة هو مقياس قصير المدى، ولا يحسب التأثير على المدى البعيد، أو ما يتحقق من الأهداف المرحلية التي تخدم القضية على المدى الطويل..

وإذا كان البعض يعترض على المقاومة المسلحة بسبب أن هناك عدم توازن في القوى واختلاله لدرجة كبيرة جداً لصالح إسرائيل، فإن الاستراتيجي هنا يستخدم تكتيك حرب الضعيف على القوي، وقد جُربت هذه الوسيلة في القرن العشرين بشكل متكرر، وكان من أكبر منظريها لينين زعيم الثورة البلشفية.. فطالما أن القانون هو وسيلة سيطرة الطبقة الأقوى، فلا بد من مواجهة القوي بضربات استفزازية، مما يجبره على القيام بضربات طائشة تفقده توازنه وعدم احترامه للقانون، ومن ثم تفقده شرعيته القانونية وتفقده شعبيته...

وهنا يمارس المحتل بطشاً همجياً، بينما لا تتأثر الفصائل المقاومة إلا قليلاً، لأن الجيش النظامي لا يواجه جيشاً مقابلاً واضح المعالم والمواقع، بل مليشيات متناثرة يصعب تحديد مواقعها بسبب مرونة حركتها مقابل ثقل حركة الجيش النظامي وبيروقراطيته، فالمقاومة هنا مثل (السمك في الماء) كما عبَّر ماوتسي تونج في مسيرته الطويلة في حرب العصابات بالصين؛ حيث يكون بإمكان المقاومين أن يذوبوا بين الناس كالسمك في الماء..

فعناصر المقاومة تسبح في ماء الشعب، والسمك هنا يستحيل قنصه دون تسديد ضربات طائشة تذهب غالبيتها في ماء الشعب الأعزل.. فيزداد غضب الشعب ضد الاحتلال لدرجة الاحتقان، والشعب حاضن للمقاومة، التي تزداد شعبيتها، ومن ثم يزداد ماؤها.. وفي هذا الماء الفسيح يمكن للمقاومين أن يتحملوا بطش جيش الاحتلال واستيعاب ضرباته, وسرعة احتواء الخسائر,? طالما أن البيئة الشعبية حاضنة لهم?. وإذا كانت المقاومة لا يمكنها العيش إلا إذا كانت هناك بيئة حاضنة لها.. فإن هذه البيئة في فلسطين تتوسع. كما أن فكر المقاومة أخذ بالانتعاش والانتشار، في المجتمعات العربية، وخاصة الإعلامي منها، بعودة روح وفكر المقاومة ضد الاحتلال.. فقمة الكويت الأسبوع الماضي دخلت في توحيد الصف العربي وحذرت إسرائيل، وبتأثير من الخطاب التاريخي لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، بأن فرصة الخيار بين السلام والحرب ليست دائماً متاحة!

أضف إلى ذلك أن كثرة الضحايا من المدنيين تؤثر في الضمير العالمي، مما يدفعه للتنديد بإسرائيل.. لذا نجد أن المظاهرات الاحتجاجية ضد إسرائيل عمَّت كثيراً من دول العالم، خاصة الغربي الذي يفترض أنه أقرب ميلاً لإسرائيل، وذلك يمكن أن يعتبر مؤشراً على ما حققته المقاومة من مكاسب في الرأي العام العالمي، الذي بدوره سيضغط على حكوماته لتعديل مواقفها من إسرائيل.. كذلك ما قامت به بعض الدول من المقاطعة لإسرائيل، وإن كانت هذه الدول ضعيفة الوزن في الميزان الدولي إلا أن له تأثيراً معنوياً واضحاً..

أما منظمات حقوق الإنسان العالمية، كمنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، فقد نددت باستخدام إسرائيل للقوة المفرطة، واعتبرتها جرائم حرب، وكشفت عن استخدام إسرائيل لأسلحة محرمة في المواقع المدنية، وطالبت بإحالة بعض القادة إلى محاكم جرائم الحرب. وحتى بعض مؤسسات الأمم المتحدة نددت بحدَّة باستخدام إسرائيل المفرط للقوة، وطالبت بمحاكمة المسؤولين عن الهجوم على مواقع أممية هناك، بل إن سكرتير الأمم المتحدة نفسه ندد بطريقة استخدام إسرائيل للقوة... إلخ.

لقد هرع قادة الدول الغربية وسكرتير الأمم المتحدة إلى شرم الشيخ لمناقشة القضية الفلسطينية، وعادت القضية لتتبوأ المواقع الأولى في الاهتمام العالمي بعد أن كادت تُنسى.. وفي ظل هذه الأجواء تنسحب إسرائيل ومعها تكريس لسمعتها العدوانية دون أن تحقق أي هدف من أهدافها، بينما نرى أن المقاومة الفلسطينية كسبت مزيداً من الشرعية والانتعاش، ناهيك أن المقاومة لم تتراجع بل رفعت سقف مطالبها، وأعلنت انتصارها.. ومن ذلك يغدو القول بأن حماس مارست انتحاراً سياسياً غير مسوغ، وإن كان هناك أخطاء في أدائها.

أنا أؤمن بالمقاومة السلمية لأنها أكثر إنسانية وهي أيضاً فعَّالة كما حصل في الهند وفي جنوب أفريقيا، ولكن من حق الشعب الذي يتعرض للاحتلال أن يختار طريقته المناسبة للمقاومة.. ولستُ هنا في مقام الدفاع عن المقاومة، إنما في محاولة التحليل لما جرى وحساب الخسارة والربح، والإيجابي والسلبي في الاستراتيجيات والتكتيكات.

وحسابات الربح والخسارة عليها البحث في الأسئلة التحليلية: هل ستتحرك القضية الفلسطينية إلى الأمام عربياً وعالمياً، أم أن الرأي العالمي سينسى ما حصل؟ هل سيُجبَر المجتمع الدولي على محاولة إنصاف الفلسطينيين والضغط على إسرائيل؟ ماذا سيتم في بند الأرض مقابل السلام وفي مسألة القدس واللاجئين والاستيطان وإقامة الدولة الفلسطينية، وكيف ستكون درجة استقلالها؟ هل ما حصل سيرفع من السقف السياسي للمفاوض الفلسطيني ويعاد النظر في بعض الاتفاقات الجائرة وفك الحصار وكسر الحواجز وإطلاق الأسرى؟ هل سنرى محاولة دمج تكتيكي بين العملين السياسي والمقاوم، وبالأخص بين فتح وحماس أم ستستمر الفُرقة.. إلخ؟ هذا ما ستوضحه الأسابيع القليلة القادمة...



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد