Al Jazirah NewsPaper Monday  26/01/2009 G Issue 13269
الأثنين 29 محرم 1430   العدد  13269
التقهقر الأميركي
بينيت رامبيرغ

 

بينما تنهمك إدارة باراك أوباما القادمة في مناقشة سرعة الانسحاب من العراق والعواقب المترتبة عليه، فربما كان من المفيد أن تدرس الآثار الاستراتيجية التي ترتبت على حالات خروج أخرى طيلة العقود الأخيرة من القرن العشرين. فرغم أن الالتزام الأميركي في لبنان والصومال وفيتنام وكمبوديا كان مختلفاً تمام الاختلاف، إلا أن التاريخ يكشف عن أن فك الارتباط كان في النهاية يصب في مصلحة أميركا، رغم التكاليف المباشرة التي تحملتها سمعتها.

وفي جميع هذه الحالات كان نوع من الاستقرار الإقليمي ينشأ بعد الانسحاب العسكري الأميركي، ولو على حساب خسائر كبيرة في الأرواح. إذ إن خصوم أميركا السابقين كانوا ينشغلون إما بتوطيد السلطة أو تقاسمها، وكانوا يعانون من هزائمهم المحلية، أو يجابهون دولاً مجاورة. وفي النهاية كانت الغلبة دوماً للمصالح الحيوية الأميركية. وتشير الأدلة اليوم إلى أن هذا النمط من الممكن أن يتكرر حين ترحل الولايات المتحدة عن بلاد ما بين النهرين وتترك للعراقيين تحديد مصيرهم بأنفسهم.

من بين أربعة انسحابات، ربما كان بوسعنا أن نقول إن التدخل الأميركي في لبنان أثناء الفترة من 1982 إلى 1984 كان الأقرب شبهاً بحالة العراق اليوم. فبعد أن مزق العنف الطائفي البلاد منذ العام 1975 ابتلي لبنان بمجموعة أكثر تعقيداً من المتنافسين والخصوم مقارنة بما يجري في العراق اليوم. إلى ذلك الآتون دخلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين. وكان الهدف من ذلك يتلخص في خلق منطقة عسكرية عازلة بين منظمة التحرير الفلسطينية والقوات الإسرائيلية التي كانت تقاتل آنذاك في بيروت من أجل تعزيز رحيل كل من القوتين. ثم جاءت المذابح التي ارتكبت في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين لتعزز من التزام جديد (لاستعادة حكومة قوية ومركزية) في لبنان، على حد تعبير الرئيس الأميركي رونالد ريغان. بيد أن هذا التدخل انتهى إلى تحول قوات الولايات المتحدة إلى هدف إضافي، وبلغ الأمر ذروته بتفجير ثكنات قوات مشاة البحرية الأميركية في العام 1983، والذي أسفر عن مقتل 241 من الجنود الأميركيين. ثم أسفر تفجير انتحاري مماثل بعد يومين فقط عن مقتل 58 من الجنود الفرنسيين.

في شهر فبراير - شباط 1984، وفي مواجهة ورطة عميقة، قرر ريغان امتثالاً لنصيحة نائبه جورج بوش الأب الخروج من لبنان. ولكن انسحاب القوات الغربية لم يوقف الاقتتال. واستمرت الحرب الأهلية طيلة ستة أعوام أخرى، وتلتها عواقب سياسية وعرة: التدخل السوري ثم طرد القوات السورية (بعد عقدين من الزمان)، ثم انهمك اللبنانيون في تحديد مصيرهم بأنفسهم بينما مارست الولايات المتحدة قدراً من النفوذ في الخلفية فقط.

وفي العام 1992 استسلمت الولايات المتحدة بفعل الانهيار السياسي في الصومال إلى إغواء التدخل في حرب أهلية أخرى لإنقاذ ذلك البلد من نفسه. وكانت المهمة الإنسانية للولايات المتحدة في ذلك البلد الغارق في الظلام تتلخص في إنقاذ مؤسسة الأمم المتحدة التي فشلت في تأمين وتغذية الشعب الصومالي الذي أنهكته الحرب.

أرسلت الولايات المتحدة 28 ألف جندي إلى الصومال، ولقد نجحت هذه القوة لبعض الوقت في فرض قدر من الأمن. ولكن سوء تجهيز وضعف قيادة قوات الأمم المتحدة التي جاءت في محل القوات الأميركية أدى إلى تحويل ما تبقى من وجود قوات الولايات المتحدة إلى هدف مركزي للهجوم أثناء محاولاتها تسليم أباطرة الحرب الصوماليين المسؤولين عن موت أفراد قوة حفظ السلام الباكستانية إلى العدالة.

وكان ما أعقب ذلك من حمامات الدم التي حصدت أرواح جنود الولايات المتحدة سبباً في توليد صور لم يتمكن الرأي العام الأميركي من تحملها، الأمر الذي أدى إلى التعجيل بخروج القوات الأميركية وقوات الأمم المتحدة.

ومع تصاعد الاضطرابات بعد تلك الانسحابات العسكرية، بدأت قوات الولايات المتحدة البحرية في مراقبة واعتراض الجهاديين الذين كانوا يسعون إلى دخول الصومال، بينما عملت كينيا وإثيوبيا على منع الاضطرابات من الانتشار إلى جميع أنحاء المنطقة. وفي العام 2006 كان استيلاء المحاكم الإسلامية على مقديشو عاصمة الصومال سبباً في استحضار شبح تأسيس دولة جهادية. بيد أن الصومال سرعان ما أثبتت أن المآزق العصيبة من الممكن أن تسفر في النهاية عن نتائج إيجابية. ففي أعقاب التدخل الأثيوبي وجد الإسلاميون أنفسهم خارج السلطة.

حتى اليوم ما يزال الصومال بلداً عاطلاً مفككاً، حيث تتنافس على السلطة العشائر المتصارعة، والجهاديون، والحكومة المؤقتة التي تدعمها أثيوبيا. والآن، بعد أن خرجت من الورطة، تمارس الولايات المتحدة نفوذاً محدوداً من بعيد.

وفي حين أن لبنان والصومال ما تزالا دولتين متضررتين، إلا أن العوامل الإقليمية والمحلية نجحت في كي الجراح الناجمة عن انسحاب أميركا من فيتنام وجنوب شرق آسيا. وكانت النتيجة هذه المنطقة المستقرة التي يراها العالم اليوم. بيد أن الولايات المتحدة كانت تنظر إلى الأمور على نحو مختلف تمام الاختلاف أثناء ستينيات القرن العشرين، حين كانت أشباح ميونيخ تحوم فوق غابات فيتنام.

وكما زعم الرئيس جورج دبليو بوش بشأن الحرب في العراق، فقد توقع الرئيس الأميركي ليندون جونسون أن الهزيمة في فيتنام (سوف تتجدد في بلد بعد الآخر). بيد أن ما فشل جونسون في إدراكه كان القيود الداخلية والإقليمية التي من شأنها أن تمنع أحجار الدومينو من السقوط على النحو الذي تنبأ به. رغم القصف الأميركي المكثف لشمال شرق كمبوديا طيلة سنوات حرب فيتنام، إلا أن الولايات المتحدة لم تكن لديها الشجاعة الكافية للتعهد بإرسال قوات أرضية إلى هناك. مع ذلك، وتحت القيود التي فرضها الكونغرس الأميركي، حاولت إدارة نيكسون تقديم الدعم لحكومة كمبوديا العسكرية. ولكن رغم الدعم المادي المتواضع فلم يكن بوسع الولايات المتحدة أن تدعم الحكومة التي لم تكن قادرة على دعم نفسها. وبدلاً من سقوط أحجار الدومينو في أعقاب الانسحاب الأميركي من سايغون في العام 1975، نشبت الحرب بين فيتنام وكمبوديا. ولقد أسفر ذلك بدوره عن حض الصين على القيام بتدخل غير ناجح في شمال فيتنام. ولقد أظهر انسحاب كل هذه الجيوش الغازية إلى الحدود الدولية المعترف بها أن القوى الوطنية كانت هي المهيمنة على المنطقة، وليس التضامن الشيوعي.

لم يكن أي من هذه الانسحابات الأميركية بلا عواقب. ولكن رغم تضرر سمعة الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم، إلا أن المزايا التي كان من المفترض أن يجنيها معارضو أميركا وخصومها من ذلك تبين أنها لم تكن أكثر من وهم.

وعلى نحو مماثل، سوف يؤدي رحيل أميركا من بلاد ما بين النهرين إلى وضع عبء حل المشكلة على عاتق العراقيين وغيرهم من اللاعبين الإقليميين، تاركاً للولايات المتحدة أن تساعد من بعيد حينما وحيثما ترى ذلك مناسباً. والتاريخ يشير إلى أن العراق سوف يجد نفسه قادراً بالتدريج على ترتيب شئونه الخاصة بنفسه، كما حدث مع فيتنام ولبنان.

بينيت رامبيرغ خدم في مكتب الشئون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية الأميركية أثناء إدارة الرئيس جورج بوش الأب.
خاص الجزيرة



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد