Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/01/2009 G Issue 13272
الخميس 03 صفر 1430   العدد  13272

رحم الله الشيخ محمد الحنطي
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف

 

لو كان يخلُد بالفضائل فاضلٌ

وُصِلت لك الآجال بالآجالِ

ما من شك أن رحيل الأحبة ورفاق الدرب في الحياة العلمية، وتلقي دروس العلم على أيدي العلماء والمدرسين مما يحز في النفوس ويحزنها فراقهم، فأجواء الدراسة في تلك المراحل تقوي العلاقات وترسخ المحبة بين التلاميذ، وذلك لطول قضاء الوقت بينهم، ودوام التواصل معهم، ففي صباح يوم السبت 27-1-1430هـ هاتفني من محافظة عنيزة الصديق الكريم الأستاذ عبدالرحمن بن صالح العليان، مدير التعليم بمدينة عنيزة سابقا، وكانت نبرات صوته توحي بشيء من التأثر غير المعهود منه... قائلاً: عظم الله أجركم في زميلكم الشيخ الفاضل محمد بن عبدالرحمن الحنطي (أبو صالح) الذي انتقل إلى ربه- رحمه الله- فما كان مني إلا أن استرجعت تالياً هذه الآية الكريمة {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، ولقد أحدث هذا النبأ في شعاب نفسي وفي حنايا ضلوعي لوعة وتأثراً على غياب زميل كريم قضيت معه من الأيام أحلاها، وقد اتصف بالعلم الغزير وبدماثة الخلق وطيب المعشر، كما سعدت بالدراسة معه بالمعهد العلمي وبكليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض، وقد عُرف عنه الجد في التحصيل العلمي وحفظ الوقت مبكراً، وكان الأمير ابن هبيرة قد أملى عليه شطر هذا البيت:

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه...

وكانت المساجد في تلك الحقبة الزمنية البعيدة محل استذكار التلاميذ لدروسهم لوجود الإضاءة الكهربائية بها، حيث إن معظم المنازل لا تتوافر فيها الإنارة - آنذاك- ولذا؛ فإن المساجد تعج بأعداد كثيرة من الطلاب كأنها خلية نحل تمثل الجد والاجتهاد، والتنافس في التحصيل العلمي، فهم يقضون الساعات الطوال في المذاكرة والحفظ حتى قبيل منتصف الليل. أذكر جيداً أن الشيخ محمد الحنطي (أبو صالح) كان لا يبرح المسجد الواقع شرقي محلة دخنة وعلى مقربة من (دروازة القري) بالرياض.. هو والزميل الراحل محمد بن سليمان المنيع -رحمهما الله- الذي يقرأ عليه ويكرر إسماعه؛ لأن الشيخ بصير لا يبصر، ولكن الله عوضه عن فقد إحدى ثقتيه (البصر) بنفاذ البصيرة وسرعة الحفظ وقوة الحدس، فما أجمل تلك الأزمان والليالي التي قضيناها معه ومع لفيف من الزملاء في استذكار العلوم والمناهج الدراسية في بيوت الله:

يا حبذا أزمُنٌ في ظلّهم سلفت

ما كان أقصرها عمرا وأحلاها

أوقات أُنسٍ قضيناها فما ذُكِرت

إلا وقطع لب الصَّبِ ذكراها

ولقد تتلمذ في أول شبابه على فضيلة الشيخ عبدالرحمن السعدي، وتعتبر تلك الفترة المباركة البنية الأساسية في مواصلته الدراسة النظامية، علما أنه قد فقد بصره وهو ابن أربع سنوات تقريبا، وقد تحسر على انطفاء نور عينيه، وخاصة حينما كبر وشرع في طلب العلم أخذ يولول، وقد ضاقت حيلته داعياً المولى بأن يلطف به وأن يصبره على أقدار الله، وكأني بلسان حاله يردد في نفسه هذين البيتين لأبي يعقوب الخريمي:

لله عيني التي فُجِعتُ بها

لو أن دهراً بها يواتيني

لو كنت خيرت ما أخذت بها

تعمير (نوح) في ملك (قارون)

تخرج -رحمه الله- في كلية الشريعة بالرياض عام 1378هـ تقريباً ثم عين قاضيا بمدينة الدرعية فترة من الزمن، ثم فضّل التدريس بمعهد الرياض، وبعد ذلك انتقل مدرسا بمعهد معنيزة إلى أن تقاعد، فأصبح يفتي لأنه ضليع في العلم وفي علم المواريث والإفتاء إلى أن أقعده الكبر وظل طريح الفراش ما يقارب سبع سنوات، وكنا نزوره بين حين وآخر حين نحضر إلى محافظة عنيزة لزيارة بعض الزملاء والأصدقاء أمثاله، وكان يستقبلنا بكل حفاوة وتكريم فيؤنسنا بأحاديثه الشيقة؛ مذكرا بأيام الدراسة وما يتخللها من مداعبات وطرائف مع بعض المعلمين والزملاء، فأحاديث الشيخ لا تمل بل يطعمها بالحكم والأمثال والقصص الشيقة، كما أن تلامذته يذكرونه بالخير دوماً؛ حيث كان أثناء الحصص يأتي بأشياء طريفة تنشطهم وتدفع عنهم السآمة والملل؛ طمعاً منه في شد انتباههم لتلقي الشروحات بكل حواسهم.

وفي أخريات حياته، انضمت إليه كوكبة من أعيان مدينة عنيزة الذين أخلدوا إلى الراحة بعدما أدوا مشوارهم الوظيفي، فشغلوا أوقاتهم بالاجتماع ببعضهم ليلاً ونهاراً، فعمروا مجالسهم بالأحاديث المفيدة الممتعة وتبادل الطرائف والملح، فأيامهم مشرقة وأمسياتهم مقمرة مؤنسة طاردة للهموم، قال عمر بن عبدالعزيز محبباً محادثة ذوي العقول والآداب: إن في المحادثة تلقيحا للعقل، وترويحا للقلب، وتسريحاً للهم، انتهى. وقد صدق رضي الله عنه وما أصدق ما قيل:

وما بقيت من اللذات إلا

محادثة الرجال ذوي العقول

غفر الله له وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وأبناءه وإخوته وعقيلته ومحبيه الصبر والسلوان.

{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

حريملاء فاكس 015260538


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد