يُعرف أن للحياة أحوالا تتلون وتلتوي بحسب الأوقات التي يحيا محبوها، فتختلف النظرة إلى الأمور وتتباين الآراء والتصرفات وتتكشف عن قابل ورافض، وثالث لا يدري، فيطالعك أحدهم بأن لحب الحياة ثقلاً يملأ الوقت والمكان، ويعبّر آخر عن النجاحات، قائلا: إن لها مسارات مدروسة. وينسب آخر الفضل في تحقيقها للحظ.. وهناك من ينسب المكاسب إلى نيته الطيبة التي يكافئه عليها الله، وآخر يقول بالقدر الذي ينصبّ على الرؤوس دونما حاجة لإشغال النفس أو التفكير في إسهام بسيط لصناعة هذا القدر ولا حتى الاستعانة بالذي قدّره، وكذلك يزعم من يزعم بأن إرثه العلمي أو المادي أو الاجتماعي يكفيه والسلام.
كيفما تغايرت الآراء والأحوال؛ فالمحكوم ببداية ونهاية يبقى هذا اللاعب بين الحدين الذي درى بالبداية ولم يشأ النظر إلى حتمية النهاية، أو الإقرار بوجوب إجراء مخالصة يجريها بنفسه لتقييم ما انقضى من العمر.
رغبت أن أصوغ في البدء جملة عما يقال في بعض الضروب والتي منها أفعال مجردة، دون كمال بعضها، لا يكتمل فعل ولا حال، وأشرت إلى الوقت لأنفذ منه إليه بحيث أستطيع الحديث عن هذا الحيز الزمني مع الإشارة إلى جدلية التعاطي معه حتى في عز التجرد، وإبداء إيمان كلي بأن حسن التعاطي مع الوقت هو كل مقدمات وصلب وخلاصة أي عمل ناجح.
إذا نظرنا إلى وجوب التعاطي مع مجمل الأمور بمحبة وحب، نأخذ بقول إن لحب الحياة ثقلا يملأ الوقت، وما وجب أن نقدس الوقت ونحب الوقت إلا لأنه حاوية الأعمار، والمدى الذي لا يسعك الوقوف عنده منتظراً الحظ أو مكافأة من الله يرجوها العاقل أن تكون في آخرته وليس في دنياه، كما يرجو العاقل أن يكون مساهماً في صناعة قدره غير منتظر لوقوعات أو حركات تزيد أو تنقص مثل الحساب المصرفي.
جل التدبير هو في احتراف التعاطي مع الوقت، وخير النتائج هي المسبوقة بوزن دقيق للساعات والاستشفاف الجميل للحياة هو الشعور العظيم بالتدبير الإلهي لهذا الكون المحتوم بنهاية مقدرة بثواني.
الوقت هذا البهاء العظيم الذي نحيا به ونحب به ونموت، فكيف أغفل عن التعاطي معه كأثمن الثمين!! وكيف لا أكتنز لحظات كأثمن الذهب؟!
فهو المتاح لمرة واحدة ولا يرجع لي إلا على شاكلة حساب، فخلايا الوقت وحدها التي لا تتجدد، أما كيف نقتل الوقت بدم بارد، هذا مثلا: سألت أحدهم يوماً، متى نراك لنكمل ما علينا معالجته من أمور حساسة؟ فأجاب: خلال ثلاثة أو أربعة أيام!!
وقع جوابه على سمعي وقع النباح، وهالني أن أراهن على نجاح مع منطق كهذا، فالالتباس الذي صبغ به أربعة أيام من عمر محسوب عليك بالساعات، والموعد الفضفاض، إذا دل على شيء إنما يدل على مخزون من الفوضى واللامسؤولية، وعن حقد على الذات مغطى بقميص من التراخي يظهر اللامبالاة بشكل البداهة.
كيف يحب شخص كهذا عملا بل كيف يحب عمره أو يحب آخر؟!
إن المفردات -على صغرها- لها من المدلولات والانعكاسات ما يجعلها التصغير الإعجازي للمجتمع، أورد هنا على سبيل الإضحاك المبكي هذه الواقعة.
ركن شاب من الرياض سيارته في ورشة لإصلاحها، وأثناء ذلك تعرضت زوجه لحادث خطير إذ جلست على كنبة ينتأ منها شريط معدني حاد فثقب اللحم بعمق رهيب أفقدها الوعي وأحدث نزفاً غزيراً فسارع لنجدتها وكان محرجاً من طلب المساعدة من أحد لكنه سارع بالاتصال لطلب المساعدة من شقيق زوجته كونه محرماً ليداري الحرج وكان هذا الشقيق أثناء ذلك في الدمام.
سأل الزوج مرتبكاً، أين أنت؟ فأجابه: أنا قادم في الطريق، خمس دقائق وأكون عندك!
كان هذا المحترم قد غادر الدمام منذ أقل من نصف ساعة ومن البديهي أنه يحتاج لأكثر من ساعتين على أحسن تقدير، لكنه داوم على التصريح بالخمس دقائق بعد كل الاتصالات التي كررها ذاك الزوج الساذج المسكين.
إن ما حصل لاحقاً يستطيع أينا تقديره، ولكن ما لا يمكن تقديره هو عدم الانتباه إلى هذا التحقير المفزع للوقت والتعاطي مع النطق به بدون مستوى التقديس والاحترام.
لعل احتقار الوقت هو كل أسباب تخلف مجتمعاتنا؛ فهناك من يحسب كسر الثانية لإتمام معادلة يصل معها إلى المريخ وهناك من يضرب موعداً على الأرض هامش الخلل فيه من ثلاث لأربع أيام.
وهناك من يعز عليه التهيب حين النطق كاذباً بالوقت الذي كان قسماً لله في محكم كتابه، وعن فيما أفنيته سيسألك يوم الدين.
تعالوا نحب كل شيء.. تعالوا نحب الوقت... نعرف الوقت.. نعي الوقت..
فاكس : 2636234