في ذاك اليوم الشتوي القارص في إحدى المدن تحركت قريحتي في تلك الأجواء الملبدة بالغيوم والمطر. وصقيع الشتاء المنهمر، قرأت في ذاك الصمت الشتوي سونيتات شكسبير، وهي جريرة من الشعر كما يراها بدر توفيق مطوقة بحاجز من جبال الجليد والضباب الكثيف؛ مثل كعكة الزفاف التي تصنع للأكل، ليحلم الإنسان فوقها.
يتسم شكسبير بالتفكير والإحساس من خلال الصورة الشعرية، وهي لافتة للانتباه بسبب قدرته الفريدة على رسمها بدقة فائقة، ومن أجل خصوبتها، وكثرة أثمارها المتوالدة، واتخاذ عناصرها الأساسية من الطبيعة ومن الحياة اليومية في مجالاتها العديدة.
هنا يتأمل القارئ قدرة الشاعر الفائقة في رسم الصور التي تجسد ما يفكر فيه بدقة مكثفة، وخفة جميلة في جريانها على نهر موسيقاه البسيطة العذبة مازجاً بين العاطفة والعقل والمجاز والمنطق في انسياب طبيعي بلا تكلف أو اصطناع.
حين تُسقط الحرب المدمرة التماثيل،
وتهدم المعارك المباني المشيدة،
فلا سيف مارس ولا نار الحرب المندلعة
يمكن أن تحرق هذا السجل الحيَّ لذكراك.
من أجوائه:ـ لا تدع يد الشتاء الخشنة تمحو عنك صيفك
قبل أن تتحول أنت على قطرات:
كن قارورة رقيقة بشكل ما، واكتنز نفسك في مكان ما
مصطحباً بكنز الجمال قبل أن يقتل نفسه.
وها هو يحملنا فوق غيمة يكاد رذاذها أن يصيبنا مردداً:ـ
لا تكن عنيداً متشبثاً برأيك، فأنت جميل على أبعد الحدود
أجمل من أن يغزوك الموت، ويكون وريثك الدود.
بعض السونيتات تتخذ مجازها واستعارتها في صورة مجال واحد، والبعض موسيقى، والآخر فصول، وأحيانا يستخدم الشاعر استعارة مستقلة في كل مقطع وأخرى صور جديدة في كل سطر.
انظر إلى الشرق حين يكون ضوء الشمس الفاتنة
قد بدأ يرفع رأسها المشتعل، فكل عين على أديم الأرض
ترفع نظرة الإجلال والتقدير إلى منظر طلعتها الوليد،
معبرة بنظرتها من الولاء والعرفان لجلالها العلوي؛
إن بنية السونيت عند شكسبير تجمع بين التمسك الشديد بالشكل النظم، مع الاستدلال بالمنطق، والانفعال الذي يحكم العاطفة.
في هذه الصورة الشعرية صورة استمدها من الطبيعة وحلق بها
هل أقارنك بيوم من أيام الصيف.
أما في هذا المقطع نزح أهطلنا مطراً إن لم يكن ثلجاً وبرداً ومضى بنا حيث منعطفات الصقيع وانتابتنا حمى الاشتياق لتغذي فينا ما غاب من نضح شعري حري بنا أن نقف عنده ونتأمل موسيقاه العذبة، والعاطفة الجياشة، نعم هي جزيرة شعر جعلتنا نبحر بجندول عابرين تلك الصور الشعرية المتدفقة، بقدرة وخصوبة فريدة ترنو بنا إلى عنان السماء.
إن حبي لك هو الذي يُبقى عيني يقظتين؛
حبي هو الصادق هو الذي يدمر راحتي
ليلعب دور الحارس من أجلك إلى الأبد:
على أن يقول:
من أجلك أبقى ساهراً عليكِ
بينما تسهر أنت في مكان آخر،
شديد البعد عني، مع آخرين في غاية
القرب منك.
مرفأ:
ليس في هذا ما يدعو إلى هنيهة إلى الازدراء فشموس الأرض تطمسها البقع السوداء إذا انطمست شمس السماء.