Al Jazirah NewsPaper Tuesday  03/02/2009 G Issue 13277
الثلاثاء 08 صفر 1430   العدد  13277
أُمي... والنظريات الاقتصادية!!
د. خالد محمد الخضر

 

سأتحدث معك أيها القارئ العزيز في هذا المقام حول علاقة والدتي - يرحمها الله- مع الاقتصاديين وأساطين الإدارة، فقد كانت والدتي -يرحمها الله- امرأة ذات عقل راجح، وأنا هنا سأنسلخ عن العاطفة قدر المستطاع وأرجو أن شممت أيها القارئ الكريم رائحة العاطفة تفوح بين السطور فمنك العذر والصفح، لم تكن والدتي تقرأ أو تكتب فهي (أمية) مع مرتبة الشرف، مثلها مثل قريناتها في عصرها وزمانها، وان كانت والدتي تقرأ المصحف الشريف، والمعروف في ذلكم الزمن أن هناك من اللواتي لا يقرأن ولا يكتبن ولكنهن يقرأن القرآن وقد تكون تلك معجزة يهبها الله لعباده المؤمنين، وحتى أكون منصفا وغير مسكون في العاطفة الجياشة اتجاه غاليتي -المرحومة بمشيئة الله- فسأتطرق هنا إلى إلماحات وإضاءات عشتها مع والدتي، دخلت ذات يوم عليها وهي كعادتها تضع المذياع في إذنها وتستمع إلى برنامج (نور على الدرب) فإذا بها تسمع صوت خطواتي وتشم رائحتي من بعيد وتنادي (خالد) قلت لها (سمي) قالت: اجلس، فقبلت رأسها ويدها وكل طرف في جسمها ويا ليتني قبّلت الأرض التي تمشي عليها، فجلست القرفصاء بجوارها وقلت لها مداعبا ما لديك (يا والدتي) قالت لي أتعرف يا ولدي أن كل عمل -وهي تعلم أنني أحترف العمل التجاري- لا تعرف نهاياته لا يكتب له الله النجاح، فابتسمت وقلت في نفسي: هذه هي إحدى نظريات ستيفن كوفي في العادات السبع، فحاولت مازحا وقلت لها كيف؟! قالت الذين يعملون دونما يعرفون نهايات أعمالهم وتقولها بكل جمال اللهجة المحكية، لا يستطيعون أن يصلوا إلى أهدافهم وغاياتهم بشكل سليم ومريح، قلت هذه واحدة، وأعرف أن لديها الكثير من الحكمة والرؤية الثاقبة، وكنت ذات يوم أدخل عليها وأنا حانق من كثير من الأمور المزعجة في عالم التجارة وما أكثرها وقد دخلت عليها وكنت قد استثمرت في مشروع ولم يكتب له النجاح، فلاحظت قلقي وما أروعها بقراءة العيون وقراءة لغة الجسد، فوالذي نفسي بيده لو أن الدرجات العلمية تمنح بالكفاءة وبالحكمة لأعطيتها أعلى الشهادات النفسية والإدارية والاقتصادية وهي ليست بحاجة إلى ذلك، فقالت وهي تنظر إليّ نظرة حانية: ما خطبك؟! قلت لها دخلت مشروع مع فلان وفلان ودفعنا كذا وكذا وبدأت أسرد القصة، قالت: يا بني يجب أن تستثمر المال (أثلاثاً) قلت ماذا! قالت ثلثا للمشروع وثلثا لليوم الأسود وثلثا لتأكل وتعيش منه، قلت: وهذه ثانية. وهي إحدى النظريات الاقتصادية المشهورة والتي ينادي بها كثير من أساطين الاقتصاد ، فقلت مبتسما كيف ذلك أيتها الغالية؟ قالت إذا ابتسمت لك الدنيا فاجعل لتكشيرتها زادا تتزود به في الأيام العجاف، وقلت: وهذه نظرية سيدنا ونبينا يوسف عليه السلام عندما فسر حلم العزيز.. حيث قال الله تعالي في محكم كتابه على لسان يوسف عليه السلام {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} الآية 46-49) سورة يوسف، وكنت ذات يوما أداعبها فقلت لها إن أحد أصدقائي خسر ماله كله وهو الآن يعيش حياة ضنك وألم وضيق فقالت لي بإيمانها وحكمتها الحاضرة في كل الظروف بل وفي أحلك الظروف، أن الله يختار للعبد أموراً قد يكون في ظاهرها شر، ولكن الخير كل الخير في باطنها، ثم أردفت تقول: إن المال لا يأتي بالرجال لكن الرجال هم الذين يأتون بالمال والأفكار والنجاح، فكم من أناس يملكون المال أو ورثوا المال فأضاعوه هباءً، وكم من الرجال الذين بدأوا من تحت خط الفقر وكافحوا وتاجروا، فإذا بالمال يأتيهم طائعا سهلا ليكوّنوا الثروات والجاه والشركات، لم تقف عند ذلك بل استرسلت تقول (عليها من الله رحمةً وغفرانا) إذا أردت أن تبني أو تنشئ مشروعا فعليك أولا باختيار الرجال قبل المال؛ فبالرجال تنجح بعد توفيق الله، قلت بنفسي هذه نظرية ندرّسها في المحاضرات والقاعات والدورات التدريبية، فالاستثمار في العنصر البشري هو من أهم الاستثمارات في القطاع الخاص، بل القطاع الحكومي.

أمي.. أيها السادة.. كانت تدير الأمور بكل احترافية واقتدار، فلم تكن تتخذ خطاً أحادياً لإدارة المواقف والأشخاص والحالات، بل كان لكل موقف ولكل شخص وحالة طريقة ومنهجية فللطفل طريقة والكبير والصغير والمرأة والرجل لكل منهم طريقة ورؤية تختلف عن الأخرى حتى المواقف والحالات تدار بشكل ينم عن حس عالي المهنية والكفاءة، فلم تكن والدتي -عليها من الله رحمة وغفرانا- تتخذ قراراً دونما تدرس الأشخاص وطرائقهم ونفسياتهم، وتتعامل مع تلك المنطلقات بشكل يجبرك على الاحترام والذهول، تعطي الحالات والمواقف والأشخاص أوزانها الذرية والمعيارية ومن خلال تلك الأوزان والمعطيات تدير الموقف والشخص والحالة، كم كانت أمي رائعة، وكم كنت أرقبها من بعيد وهي تدير موقفا أو حالة مستعصية بكل عقلانية و روية، كم أكون منبهراً بها وهي تدير تلك المواقف، لقد جعلتني أمي - رحمها الله- أعشق الإدارة وأدرس الإدارة وأمارس الإدارة تأسياً بطريقتها وفنها وجمال أسلوبها، لك مني يا أمي كل الدعاء بأن يقيل الله عثرتك ويغفر لك ويتجاوز عنك إنه ولي ذلك.



Kmkfax2197005@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد