مما يبرز -على مدار التاريخ- في الأحداث العظام انشطار الناس إلى أقسام متفرقة، وعلى رأس هذه الأقسام قسم يتربص بالناس الدوائر، فقد برزوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- في أحلك الظروف، وبخاصة في الغزوات، كما في غزوة أحد، كما قص الله -سبحانه وتعالى- ذلك علينا في القرآن الكريم، فبسبب هؤلاء المنافقين رجع ثلث الجيش للشبه التي ذكروها، بأن المدينة خلت من الرجال، ونخشى على البيوت والنساء، وأن يعجب الناس من مقالة هؤلاء في هذه الأحداث، فالعجب يشتد مع من كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويعلم أن الله تعالى سيفضحهم، لكنها حكمة الله -سبحانه وتعالى-، فهل نعجب بعد ذلك بمن يضع اللائمة على الفلسطينيين؟ أو سكان غزة؟ أو حزب معين؟ وكأن اليهود حمل وديع، مسالم، حبيب إلى النفس، لا يعادون أحداً، ولا يظلمون، ولا يقتلون ولا ينقضون عهداً ولا ميثاقاً، وأنهم أصحاب صدق وتعامل حسن!! ويصب جام غضبه ومداد قلمه على أبناء ملته؛ لأنهم ارتكبوا فيما يظنه خطأ.
لكن يبقى النظر في الموقف من حال هؤلاء المرجفين، ويمكن هنا تلخيص بعض النقاط بشكل موجز:
أ- إدراك وجود المنافقين في كل زمان ومكان.
ب- ضرورة الاطلاع على ما ذكره الله من صفاتهم في القرآن الكريم، وبالذات في مطلع سورة البقرة، وفي سورة المنافقين، ومن ذلك:
-ادعاؤهم الإصلاح وهم مفسدون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}.
- بلاغتهم في كلامهم وتنميقه وتزيينه: {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}.
- إظهار ما لا يبطنون، فتأتي الأحداث لتبين ذلك: {وَإِذَا لَقُواْ
الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ}.
- همهم السخرية من الدين وأهل العلم والحق، كما في الآية
السابقة، وغيرها مما يطول ذكره.
ج- ضرورة الاطلاع على منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعامله معهم، ومن معالم هذا المنهج:
- معاملة الناس بحسب ما يظهرون، وعدم البحث في النوايا كما جرى مع المعتذرين من عدم حضور غزوة تبوك.
- عدم إصدار الأحكام على معينين، فهذا من الخطورة بمكان، فالنبي - صلى الله عليه وسلم- لم يصدر حكماً على معين ممن أظهر الإسلام، وأبطن الكفر، والمسألة فيها تفصيلات لأهل العلم.
- بيان صفات المنافقين، كما جاءت في القرآن والسنة.
- بيان المقولات والآراء الخاطئة من خلال النظر الشرعي.
- ألا يشتغل صغار طلبة العلم بأحوال المنافقين، فهذا من شأنه أن يشغلهم عما هو أهم، بل يشتغلوا ببناء أنفسهم والاهتمام بها.
- التحذير من النفاق بعامة، بحسب ما جاء في القرآن والسنة.
- عدم الانجراف وراء الشيطان لتزكية النفس، من خلال التعريض بفلان أو علان.
***
مما ظهر في الآونة الأخيرة جليا أكثر من غيره في الأحداث المعاصرة، التعاطف الشعبي الكبير في أرجاء المعمورة لما شاهدوه من الاعتداءات الظالمة، والقتل والتدمير، حتى من بعض الشعوب غير المسلمة.
وهذا يدل على:
أ- أن الفطرة الإنسانية مغروس فيها كره الظلم واستنكاره.
ب- أن جذوة الإيمان ما زالت متوقدة في الشعوب المسلمة على اختلاف مذاهبهم، ومستوياتهم، وأحوال المعيشة، وغيرها.
ج- بغض اليهود وأفعالهم.
د- أثر هذه العواطف في واقع الناس عموماً.
وهذا يتطلب من أهل الولاية والعلم والفكر استثمار هذه العواطف الجياشة، ووضعها في مسارها الصحيح، لئلا تزل قدم بعد ثبوتها، ويستغل ذلك من لا يحسن، أو حتى مغرض أو صاحب هوى، أو مصلحة، فيوقع الناس في مسارات غير سليمة.
من الاستثمار الإيجابي المبادرات التوجيهية السليمة، وربط المواقف بالأدلة الشرعية، وإحياء المرجعية العلمية، والصدور عنها، وعدم التعصب لرأي دون آخر، وينبني على ذلك أن تجتهد المؤسسات العلمية بمختلف تخصصاتها بوضع البرامج المناسبة لذلك.
***
ومن الوقفات التي تسترعي الانتباه إحياء المسؤولية الإعلامية بمختلف وسائل الإعلام، والتي قد انشطرت في هذا الحدث إلى شطرين، شطر وعى مسؤوليته فأبدى جهده لتصوير الحدث، ونقله للعالم، والتعليق عليه، وشطر نظر إليه من منظار آخر يحز في النفس، كأنه لا يعنيه، بل استمر في برامجه التي لا تتفق مع الدين، ولا حتى مع مشاعر هذه الأمة التي آلمها الحدث، فانكشف في ذلك غطاءات، وتبين ما تبين مما كان مغبشاً على كثيرين.
وهذا يتطلب:
أ- الاهتمام من أهل العلم والعقل، بوسائل الإعلام المختلفة، مهما كان أثرها في ظن الظان أنها يسيرة.
ب- على المختصين في الإعلام الاجتهاد فيما يسوغ لهم الاجتهاد فيه من الإبداع في عمل البرامج النافعة للدور والأوطان.
ج- مناصحة القائمين على مختلف وسائل الإعلام ليقوموا بما حملهم الله تعالى من أمانة هي من أعظم الأمانات.
د- تحذير وسائل الإعلام من تكريس جهدها فيما يتناقض مع الشرع، والقيم والأخلاق، وما تبثه من برامج مضعفة للأمة.
- المشرف العام على شبكة السنة النبوية