Al Jazirah NewsPaper Friday  06/02/2009 G Issue 13280
الجمعة 11 صفر 1430   العدد  13280
الدعوة إلى مكارم الأخلاق وحقوق الإنسان في الإسلام 3 - 3
وسيلة محمود الحلبي

 

أتناول في الجزء الثالث من مقالي الدعوة إلى مكارم الأخلاق وحقوق الإنسان في الإسلام الحقوق السياسية والمدنية، وأولها حق الحرية، ويتضمن الحرية الشخصية حيث جاء الإسلام باحترام الشخصية الإنسانية ولا يتحقق ذلك إلا مع الحرية، وتتضمن حرية الذات، ومن خصائصها حرية الاعتقاد، وتحمل المسؤولية، وحق الهجرة واللجوء، وحق الأمن، وحق المأوى، وحق سرية المراسلات.

حرية التنقل: تشمل تنقله في الداخل والخارج دون عوائق، مع إعطاء الطريق حقه. والإسلام لا يفرض قيوداً على حرية التنقل والهجرة.. إلا من بعض الاستثناءات، حيث توضع بعض القيود على هذه الحرية إذا اقتضت المصلحة العامة لدواعي الصحة أو الأمن العام أو الآداب العامة.

حق الأمن: كفالة سلامة الفرد في شخصه، وعرضه، وماله؛ فلا يجوز الاعتداء عليه أو الأذى به؛ لأن الدولة هي الجهة المنوط بها تنفيذ الأحكام الشرعية. قال - صلى الله عليه وسلم -: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

حق المأوى: كفله الإسلام لقوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} - من سورة النحل. هذا وقد كفلت الشريعة الإسلامية حرمة هذا السكن وفق أطر ثلاثة هي: حق كل فرد في منزل يسكنه - حرمة هذا المسكن - وحظر التجسس على المسكن، وعلى أسرار البيوت، وعدم هتك أستارها. والسكن له أهمية في المحافظة على كرامة الإنسان ووقايته من البرد والمطر والحر والشمس. وهو موضع أسراره ومكان راحته وستر عورته. وقد أحاط الإسلام المسكن بسياج من الحماية بحيث لا يجوز لكائن من كان دخوله إلا بإذن صاحبه؛ قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} - من سورة النور. وتشمل حرمة المأوى عدم الاستيلاء عليه أو هدمه جبراً وبتعويض مجز ولضرورة ملحة.

حق سرية المراسلات: شدد الإسلام على هذا الحق لما فيه من تدخل في خصوصيات الآخرين، ويشمل ذلك جميع أنواع المراسلات، سواء كانت بريدية - برقية - فاكسية - تلكسية، والمكالمات الهاتفية. وقد نهى الإسلام عن التجسس فقال تعالى: {ولا تجسسوا}، والاطلاع على هذه الأنواع جميعها بغير استئذان يعد هتكاً للأستار تتساوى مع حرمة البيوت؛ لأن فيها تعطيلاً للإنسان من أن يمارس حقه الشخصي، وانتهاكاً لكرامته وحرية فكره، وهتكاً لأسراره. ولما في كشف سرية المراسلات من كشف للعورات والسوءات فقد جعل الإسلام لمن ستر عورات المؤمن من الأجر ما كأنه استحيا موءودة من قبرها؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها) رواه أحمد في المسند - البيهيقي، فكيف بعقوبة من يحاول كشف عورات الناس والاطلاع على سرائرهم بدون علمهم أو إذنهم؟

حرية العقيدة: تتضمن حرية الاعتقاد؛ لقوله عز وجل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} - من سورة البقرة؛ لذلك أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل. وأوجب الإسلام على المسلمين إظهار معالم دينهم وإبلاغ الرسالة؛ لأن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي أمة دعوة. وفي مبدأ حرية العقيدة يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال والاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحسابه لنفسه؛ لذلك كانت الدعوة إلى الإسلام بالإقناع وبالدليل العقلي؛ قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} - من سورة يوسف. وتحترم الشريعة الإسلامية حرية العقيدة. وكفل الإسلام حرية النقاش الديني الموصل للحقيقة ومقارعة الحجة بالحجة؛ لذلك أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، وكلنا يعرف إبطال سيدنا إبراهيم - عليه السلام - دعوى ألوهية البشر بالحجة والبرهان، وكذلك محاججة سيدنا موسى وهارون - عليهما السلام - لفرعون. كما دعا سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - المجادلين في أمر عيسى بغير الحق إلى المباهلة وجعل اللعنة على الكاذب، ولم يقل إنه هو الصادق وغيره هو الكاذب مع تيقنه بصدق ما يقول، وما ذلك إلا للمجادلة بالتي هي أحسن؛ مصداقاً لقوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} - النحل. والإسلام في سماحته مع أصحاب العقائد الأخرى يفرق بين أهل الكتاب والمشركين، وهو ليس عقيدة قلبية مجردة وترفاً فكرياً بل هو سلوك اجتماعي وواقع عملي مطبق في واقع الحياة وفي جميع نواحي النشاط الإنساني ما خفي وما علن، وهو إلى جانب ذلك نظام اجتماعي. والردة خروج عن ذلك النظام باسم الحرية.

حرية الفكر والتعبير عن الرأي: هي من أهم الحريات الأساسية التي يجب أن يتمتع بها الإنسان؛ لأن الفكر من أثمن المواهب الإنسانية، وهو وسيلة المرء لاكتساب العلم والمعرفة والحكمة، وهو أداة تعبير عن حرية إرادة الإنسان وتمكنه من التمييز بين الفضائل والرذائل والخير والشر؛ قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} - البقرة. وقد اتبع الإسلام حرية الفكر بالتعبير عن الرأي سواء بالقول أو بالفعل (في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وقد حض الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قول الحق مهما كانت الظروف وألا يخاف المرء في الله لومة لائم؛ لذلك يقول: (إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) - ابن ماجه. وجعل الإسلام فرض الرأي من التكافل الاجتماعي وواجباً إسلامياً ما دام في دائرة النفع العام؛ قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) - صحيح مسلم.

حق العمل: كل عمل في الإسلام يقصد به وجه الله فهو عبادة؛ لذلك لم يعرف الإسلام البطالة ولم يقرها. والأنبياء جميعاً كانوا يعملون؛ قال عليه الصلاة والسلام: (ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله قال: كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) - البخاري. وأطيب الكسب الذي يأكل منه الإنسان ما كان من عمل يده؛ قال صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده) - البخاري. ورفع الإسلام مرتبة العمل فجعلها نوعاً من الجهاد إذا كان العمل حلالاً؛ لأنه يحرم العمل الحرام. والعمل عبادة ومكفر لبعض الذنوب؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة) - الطبراني. وحث الإسلام على إتقان العمل؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). وحرص الإسلام على إنصاف العامل وإعطائه حقه كاملاً دون بخس أو ظلم؛ قال تعالى: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) - هود. وقال صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) - ابن ماجه. وقرر الإسلام نظام الحوافز للعامل الذي يلحظ فيه النشاط ليزداد نشاطه ويكثر إنتاجه؛ قال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى}- النجم؛ وبذلك نرى أن الإسلام يضمن للعامل حق المعيشة في مستوى لائق، ويشمل ذلك التغذية والملبس، والمسكن والعناية الصحية، وذلك بتوفير فرص العمل له وإعطائه أجره كاملاً لقاء عمله وأن يكون أجره مساوياً لعمله، مع تشجيعه من خلال الحوافز وتنمية مهاراته ومواهبه وتحسين مستوى أدائه المهني وصقل مواهبه، وأن لا يكلف ما لا يطيق من العمل. وفي رعايته ذلك لما تتطلبه المصلحة العامة ولا يضر بها حيث إن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة؛ لأنها تهدف إلى المصلحة العليا للأمة.

حق المشاركة السياسية: تعني حق كل إنسان في ولاية الوظائف الإدارية صغيرها وكبيرها ما دام بكفايته أهلاً لتوليها، ومن حق كل إنسان أن يبدي رأيه في سير الأمور العامة وتخطئتها أو تصويرها وفق ما يعتقده ويراه في إطار الضوابط الشرعية.

حق الملكية: قرر الإسلام حق الملكية؛ لأن الإنسان مجبول على حب المال والغنى؛ قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} - الفجر. وقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} - الكهف. وقد قرر الإسلام حق الملكية الفردية بما يحقق مصلحة الفرد؛ فيكرس حقه المنسجم مع فطرته في حب التملك؛ فيزيد من قدراته الإنتاجية وطاقاته الفكرية وتنمية شخصيته بالتعاون مع الجماعة ليؤدي وظيفته الاجتماعية تجاهها وهو بذلك يقرر حق الملكية الجماعية؛ وبهذا يتحقق التوازن بين الفرد والجماعة؛ فلا يطغى أحدهما على الآخر. والله هو واهب الملك؛ فهو الذي خلقه ويسر لمكتسبه اكتسابه وهيأ لهم أسبابه؛ قال تعالى: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} - النور، وقوله: {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} - الأعراف. وقد رتب الإسلام على حق الملكية التزاماً عاماً على الجميع باحترامه وعدم الاعتداء عليه أو مساسه دون وجه حق؛ يقول الله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} - البقرة. وقد فرض الله عقاباً على من ينقض هذا الالتزام ويتجاوز ملك الغير؛ فهناك عقوبة السرقة وقطع الطريق والنهب وخيانة الأمانة وغيرها من العقوبات. ومن حيث الحصول عليها هناك قيود واردة على الملكية وهي: أن تكون ناشئة عن أسباب مشروعة مثل (العمل العقلي والذهني) مع مراعاة مبادئ الشريعة وقيم الأخلاق والعقود والتصرفات الناقلة للملكية كالبيع والإجارة والهبة والوصية، وجميع العقود الأخرى والتولد من المملوك مثل نتاج البهائم وثمار الأشجار. أما الميراث: فهو انتقال الملكية للوارث بعد موت الموروث إذا توافرت الأسباب والشروط وانتقت الموانع، ومن حيث تنميتها؛ فقد نظم الإسلام طرق تنمية المال وفق الضوابط المشروعة. وقد حرم بعض الوسائل في تنمية المال مثل تحريم الغش بكل أنواعه وتحريم الاحتكار وتحريم الربا. أما من حيث إخراجها؛ فقد شدد الإسلام في إخراج الملكية؛ حتى لا تتعرض للسفه وجعل لإخراجها طرقاً صحيحة مبنية على أسس وقواعد شرعية وحرم كل طريق يتنافى مع ذلك، وفرض الحجر على عديمي الأهلية في إخراجها.

الحقوق المرتبة على الملكية: رتب الإسلام حقوقاً على الملكية بما يضمن العيش الكريم لكل الأفراد؛ فأمر رب الأسرة بالنفقة على من تلزمه مؤونته من زوجة وأبناء، والقريب الفقير، وصلة الرحم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله) - الغزالي. وهو في كفالة المجتمع، والدولة لتنفق عليهم من بيت المال. وولي الأمر في الإسلام مسؤول عن ذلك. ومن الحقوق المترتبة على الملكية: الزكاة، ونفقة الأقارب وتشمل عمود النسب وهم الأصول والفروع والأقارب من غير عمود النسب، والصدقات والوقف والوصية.

لحظة صدق

جاء الإسلام باحترام الشخصية الإنسانية؛ لأنها معيار لكل شيء ولا يتحقق وجودها إلا مع الحرية وفي ظل الحرية يشعر الإنسان بكرامته وبوجوده كإنسان؛ قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} - الإسراء.

***

عن كتاب حقوق الإنسان في الإسلام

د. عبداللطيف بن سعيد الغامدي

للتواصل: تليفاكس 2317743
ص. ب 40799 الرياض 11511



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد