Al Jazirah NewsPaper Friday  06/02/2009 G Issue 13280
الجمعة 11 صفر 1430   العدد  13280

بل يفتك بالبشر
الذئب والغدر (أخوان) رضعا من (لبان) واحد

 

قرأت في العدد 13277 من (الجزيرة) الغراء بتاريخ 8 صفر 1430هـ وفي صفحة عزيزتي الجزيرة تعقيباً بعنوان (الذئب لا يعتدي إلا على الغنم) وأود أن أعقب على هذا الموضوع فأقول:

قال الله تعالى:{قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ. وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (17-18) سورة يوسف، وعلى ذلك فلم يكذبهم (إخوة يوسف) أبوهم يعقوب عليه الصلاة والسلام بقوله إن الذئب لا يأكل البشر، بل اتهمهم بالكذب وأنهم سوّلت لهم أنفسهم أمراً. وفي قصص الأنبياء أن الدم الذي على القميص هو دم سخلة ذبحوها وأكلوها في رحلتهم (ولم يكن آنذاك تحليل الدم معروفاً).

وفي كتب قصص الأنبياء أن الذئب جاء إلى يعقوب عليه السلام وأقسم له أنه لم يأكل يوسف ولم يره. وفي قصة أخرى أن الذئاب كلها اجتمعت وجاءت ليعقوب عليه السلام لتحلف أنها لم تأكل يوسف وأنها بريئة من دمه حتى ذهبت الحادثة مثلاً فيقال: (براءة الذئب من دم ابن يعقوب).

وفي قصص الأنبياء أن يعقوب صلى الله عليه وسلم طلب من أبنائه أن يروه قميص يوسف عليه الصلاة والسلام فلما رأى القميص سالماً من التمزيق قال: ما رأيت أرحم من هذا الذئب أكل يوسف ولم يبق منه شيئاً دون أن يمزق قميصه (لا يوجد جريمة كاملة).

وعلى ذلك ففي القصة وجهان: لم ينكر يعقوب عليه السلام أن الذئب مفترس وكذلك لم يأكل الذئب يوسف عليه السلام. وفي الأحاديث الشريفة ما يثبت أنها تفترس الماشية فقد سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد جملاً ضالاً فأمر بتركه ومن وجد شاة فليأخذها فإنما (هي لك أو لأخيك أو للذئب).

وفي الحث على الالتزام بالجماعة ورد الحديث (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) تصديقاً لادّعاء الكاتب.

وقرأنا في سير التابعين - رحمهم الله - أن عروة بن الزبير بن العوام ابن أسماء بنت أبي بكر وخالتُهُ عائشة بنت أبي الصديق رضي الله عنهم أجمعين اصطحب أحد أبنائه وتوجه إلى دمشق إلى الخليفة عبد الملك بن مروان - رحمه الله - وذهبا في زيارة إلى اصطبل الخليفة فرمحت فرسٌ ابن عروة فمات من فوره فحزن عروة حزناً شديداً لكنه صبر واحتسب واسترجع قال: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).. ثم طلب عبد الملك من يحضر له من أصابته مصيبة أكبر من مصيبة عروة لتعرض عليه فتهون عليه مصيبته فأحضروا له رجلاً عبْسياً قد كُفَّ بصره وحكى قصته فقال إنه كان في الصحراء ومعه طفل صغير يحمله على جمل فنزل عن الجمل فنفر الجمل فوضع العبسي ابنه على الأرض ولحق بالجمل فصاح ابنه فالتفت الرجل فإذا رأس ابنه في فم الذئب وضرب الجمل العبسيّ بخفه على وجهه فذهب بصره وهذا دليل على افتراس الذئب للبشر ولو طفلاً. كما يدل على افتراس الذئب للبشر قصيدة الفرزدق همام بن غالب المشهورة:

وأطلسَ عسّالٍ وما كانَ صاحباً

دعوتُ لناري موهناً فأتاني

فلما دنا قلتُ: ادنُ دونَكَ إنني

وإياكَ في زادي لمُشتركانِ

فبتُّ أقدُّ الزادَ بيني وبينَهُ

على ضوءِ نارٍ مرَّةً ودُخان

وقلتُ له لما تكشَّرَ ضاحكاً

وقائمُ سيفي من يدي بمكانِ

تعشَّ فإن عاهدتني لا تخونُني

نكن مثلَ من يا ذئبُ يَصطَحبان

والمعنى أن الذئب (الأطلس)؛ أي الذي لونه أغبر مائل للسواد والعسال السريع الذي لا يُصَاحَب رأى الفرزدق يشعل النار ليشوي اللحم فجاءه الذئب فدعاه لمشاركته الأكل وأخذ يطعم (الذئب) حتى شبع فقوي وتكشّر ضاحكاً (فتح فمه وكشَّر عن أنيابه كأنه يضحك كما قال أبو الطيب:

إذا رأيت ينوب الليث بارزةً

فلا تظنَّنَّ أن الليث يبتسمُ

البحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن) في كل شطر.

وفهم الفرزدق أنه سيفترسه وكان قائم السيف (مقبضه) في يد الفرزدق وهدَّد الذئب قائلاً: إذا عاهدتني وتركت الخيانة والغدر فاستمر في تناول عشائك معي كصاحبين وإلا فالسيف بيني وبينك. ثم قال (الفرزدق):

وأنتَ امرؤٌ يا ذئبُ والغدرُ كنتما

أخيّينِ كانا أُرضعا بِلبانِ

ولو غيرَنا نبّهتَ تلتمسُ القِرى

رماكَ بسهمٍ أو شَباةِ سِنانِ

وكلُّ رَفيقَيْ كُلَّ رَحْلٍ وإنْ هُما

تعاطى القَنا قوماهُما أخَوانِ

القنا جمع قناة وهي الرمح أو عُود الرمح والرحل ما يوضع فوق الدابة للركوب.

ويخلص إلى أن الذئب والغدر أخوان رضعا من لبان واحد (أي أن الغدر طبعه) وأخبر (الذئبَ) أنه (الفرزدق) كريم وإلا لو ذهب لغيره يطلب القِرى لضربه بسهم أو حديدة رمح فهما قرى الذئب الغدار والقِرَى طعام الضيف.

ويقول الفرزدق إن أي مسافرين رفيقين أَخَوان حتى لو كان أهلهما في حرب.

والقصيدة السابقة من البحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن) في كل شطر.

وقيل إن عجوزاً وجدت جَرْوَ ذئب (ذئباً صغيراً) فأشفقت عليه وأخذته لبيتها وعندها شاة أرضعته من لبنها حتى كبر وقوى فافترس الشاة فقالت العجوز مخاطبة الذئب الصغير:

بقرت شويهتي وكسرتَ قلبي

وأنت لشاتنا ابنٌ ربيبُ

غُذيتَ بدرِّها ورُبيتَ فينا

فمن أنباك أن أباكَ ذيبُ

إذا كان الطباعُ طباعَ سوءٍ

فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ

والشويهة تصغير الشاة والأبيات من البحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعولن) في كل شطر.

واشتغل التربويون ببيت العجوز الأخير ليدلّلوا على أن الأدب والتأدب لا ينفعان مع من طبعه خلاف ذلك.

وقال شاعر يحذّر من بعض الإخوان:

لا تمدحنَّ امرأ حتى تجرّبهُ

ولا تذمَّنهُ من غير تجريبِ

فربّ خِدْنٍ وإن أبدى بشاشتهُ

يضحي على خِدنه أعدى من الذيب

(الخدن الصديق المقرب)

والبيتان من البحر البسيط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن) في كل شطر.

وعلى ذلك فعداوة الذئب مضروب بها المثل فيقال: فلان أعدى من الذئب (عداوةً أو هجوماً).

على أن الذئب على غدره قد يكون أُنساً لبعض الناس فالشاعر الأُحَيْمِرْ (تصغير أحمر) السعدي (شاعر أموي) كان قاطع طريق ومختفياً عن الحاكم هائماً على وجهه في الصحراء فإذا سمع صوت ذئب استأنس به لأنه لن يسلّمه للحاكم وإذا سمع صوت إنسان كاد يطير قلبه هلعاً وخوفاً.

قال الأحيمر السعدي:

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذْ عَوى

وصوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ

يرى اللهُ إني للأنيسِ لكارهٌ

وتبغضهم لي مُقلةٌ وضميرُ

فِلليلِ إن وارانيَ الليلُ حكمُهُ

ولِلشمسِ إن غابتْ عليَّ نُذورُ

وإني لأستحيي من الله أن أُرى

أجرّرُ حبلاً ليس فيه بعيرُ

وأن أسألَ المرءَ اللئيمَ بعيرَهُ

وبُعرانُ ربّي في البلادِ كثيرُ

وتظهر أخلاق قطّاع الطرق (الهاربون من العدالة).. فهذا الشاعر الأحيمر السعدي استأنس بعواء الذئب (العواء للذئب والنباح للكلب) لأنه يأمن جانبه فلن يسلّمه للشرطة بينما أفزعه صوت الإنسان فغدره أشد من غدر الذئب حيث يمكن تسليمه للشرطة، كما أنه يكره الأنيس أن يراه ويكرهه بقلبه وضميره ويطمئن لليل وينتظر مغيب الشمس ويقطع على نفسه (نذوراً) لئن غابت ليفعلن كذا وكذا.. وينتقل إلى طبيعة اللصوص فهو يستحيي أن يسير ولا بعير معه، بل ينهبه، ولا يتنازل أن يتسوّل طالباً من الناس فالبُعران (ج بعير) كثيرة وما عليه إلا أن يسرق أو ينهب عنوة.

وقد يُشجي صوت الذئب ويُطرب بعض الناس ويذكّرهم بأحبابهم.. غنَّى الفنان عبد العزيز الراشد:

يا لذيب يا للي هاظني بِعْواهْ

قبلك ونا (أنا) عن صاحبي سالي

وهناك من يعطف على الذئب فيترك له من الغنم ما يبقيه حباً ويحفظ باقي الأغنام لا يفنيها الذئب ففي المثل (لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم).. وفي هذا كفاية.

نزار رفيق بشير - الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد