Al Jazirah NewsPaper Tuesday  10/02/2009 G Issue 13284
الثلاثاء 15 صفر 1430   العدد  13284
خدعة أم حلوى؟
ريكاردو ريبوناتو

 

في الآونة الأخيرة اجتاحت طريقة جديدة في التفكير بشأن الاختيار الفردي الساحة السياسية بالكامل. ولقد أبدى الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما وزعيم المحافظين البريطانيين ديفيد كاميرون (على سبيل المثال لا الحصر) اهتماماً بهذه الطريقة. والحقيقة أن الأصل الفكري والأكاديمي لهذه الطريقة خلو من العيوب. ويقال إنها طريقة فعّالة، وقائمة على الدليل، وتطبيقها غير مكلفه، وهي في المقام الأول من الأهمية تزعم لنفسها درجة من التماسك الفلسفي لا تملك مذاهب (السبل الثالثة) التي انتشرت أثناء العقد الماضي إلا أن تحلم بها.

وهذه الفكرة الجديدة، التي يوضحها كتاب كاس سانستاين وريشارد ثالر الذي صدر تحت عنوان (الوكزة)، تتلخص في أن السيطرة ببراعة على الطريقة التي يتم بها تقديم البدائل لنا من شأنها أن تلكزنا (تدفعنا) نحو اتخاذ الخيارات التي قد يتخذها (الجانب الطيب) من شخصياتنا. ويزعم أنصار (الأبوية التحررية) من أمثال سانستاين وثالر أننا لا نملك إلا طريقتين مختلفتين لاتخاذ القرارات: الأولى تنبع (من القلب) (ويطلقان عليها النظام الأول)، والثانية أكثر عقلانية وأعمق دراسة وأبعد فعالية (ويطلقان عليها النظام الثاني).

ولكن رغم أن الاختيارات القائمة على النظام الثاني قد تكون أكثر فعالية من القرارات القائمة على النظام الأول إلا أنها أكثر تكلفة: إذ إنها تتطلب جمع المعلومات وتحليلها وتركيزها. ونحن عادة لا نلجأ إلى النظام الثاني المكلف المرهق إلا حين نرى أن جسامة المهمة تبرر الجهد المبذول. وتقسيم العمل على هذا النحو بين آليات النظام الأول والنظام الثاني قد يعمل على نحو طيب لولا أن أسلوبنا الكسول الرخيص في اتخاذ القرار يميل إلى فرض سيطرته في المواقف التي تتطلب كامل اهتمامنا وانتباهنا: على سبيل المثال، اختيار خطة للمعاش التقاعدي أو الرعاية الصحية. وكما نستطيع أن نتصور فإن نتائج هذا النظام الأول ليست طيبة.

كان أنصار المذهب الأبوي التقليديون على إدراك تام لهذه الحقيقة. وفي هذه المواقف فإن أتباع الأبوية الليبرالية لا يتورعون عن فرض سيطرتهم علينا وإرغامنا على اختياراتهم (اربط حزام الأمان في مقعدك واشترك في خطة المعاش التقاعدي وفي النهاية سوف تشكرني). والحقيقة أن الانتقادات الموجهة إلى هذا الموقف تتلخص في سؤال بسيط: مَن أفضل مني تجهيزاً واستعداداً لاتخاذ القرارات فيما يتصل بمصالحي الخاصة؟.

أما أتباع الأبوية التحررية فهم مختلفون. فهم لحملنا على اختيار ما هو في مصلحتنا يتجنبون الغرامات، والإكراه، والنهي ويستعيضون عن ذلك كله بأسلوب (الوكز)، أو الترتيبات المؤسسية التي نستطيع من حيث المبدأ أن نتجاهلها بسهولة، ولكن نظراً لميلنا إلى الاعتماد على النظام الأول، فإن الحال تنتهي بنا عادة إلى مجاراة الأمور. ويا له من لي متقن أنيق للمنطق، فهنا تنقلب عيوبنا الإدراكية رأساً على عقب، فتدفعنا دفعاً إلى اختيارات النظام الثاني. والحقيقة أن الوكزات المختارة بعناية أظهرت فعالية بالغة في تبديل الخيارات التي من شأنها أن تحدث اختلافات ضخمة في حياة العديد من الناس (ولنقل على سبيل المثال، الاشتراك في خطط المعاش التقاعدي).

ولكن هنا تكمن الصعوبة: فإذا كانت بنية الاختيار على هذا القدر من الأهمية في تقرير النتائج، فهل من المهم حقاً إذا استُخدِم التلاعب وليس القهر لحملنا على اختيار ما يقرر شخص آخر أنه على قدر عظيم من النفع لنا؟ وما الذي نكسبه بخداع الناس بدلاً من إرغامهم على اتخاذ الخيارات التي ما كانوا ليفكروا في اختيارها؟ أليست قوة المتلاعب أكثر غدراً، بل وربما أكثر إثارة للخوف، من قوة رجل الشرطة؟ باختصار، أين التحررية في استخدام أسلوب (الوكز)؟

يقدم أتباع الأبوية التحررية إجابة جديدة على هذه التساؤلات؟ فما دامت هندسة الاختيار تدفعنا بالخداع إلى اتخاذ الخيارات التي كان الجانب الأفضل من شخصياتنا ليتجه إليها على أية حال، فالخداع هنا إذن أمر مبرر. ولابد كما يقولون أن يتم اختيار الوكزات بحيث تدفعنا نحو هذه الخيارات التي كنا لنتخذها بأنفسنا، لو جلسنا وفكرنا بروية بشأن المسألة المطروحة.

هناك للأسف بعض المشاكل المنطقية التي تحيط بهذا الحل الذي يبدو أنيقاً في ظاهره. فهل حقاً من المعقول والفعّال دوماً أن ننصت إلى أفضليات النظام الثاني؟ وفقاً لخبراء الاقتصاد الكلاسيكيين الجدد، فإن الإجابة هي (أجل) بكل تأكيد، بل إنهم قد يشيرون في العديد من الحالات إلى أدلة مادية لإثبات صحة ادعائهم.

ولكن من المؤسف أن الإفراط في العقلانية لا يؤدي دوماً إلى نتائج طيبة حين يرتبط الأمر بالاختيارات الاجتماعية وليس الاختيارات الفردية. بل إن الإفراط في العقلانية قد يؤدي أحياناً إلى نتائج غير فعّالة، أو خطيرة، أو الاثنين معاً. فالفوائد المترتبة على التهرب من الضرائب على سبيل المثال تفوق كثيراً المخاطر المترتبة على خطر الوقوع تحت طائلة القانون، ولكن فلنتخيل أن كل شخص قرر أن يتهرب من الضرائب في نفس الوقت. في مثل هذه المواقف فإن من يتخذ القرار استناداً إلى النظام الثاني لن يجد الأدوات التي يستطيع أن يلجأ إليها للهروب من النتائج الاجتماعية الخطيرة المترتبة على القرار العقلاني.

وهنا تتفاقم الأمور سوءاً. لنتأمل معاً هذا المثال: أنا من مؤيدي وهب الأعضاء. ولابد أن ثالر وسانستاين يعتقدان أيضاً أن وهب الأعضاء سلوك طيب. وعلى هذا فإن واحدة من (الوكزات) التي قد يوصيان بها هنا تتلخص في جعل وهب الأعضاء الخيار الافتراضي الأساسي في حالة التعرض لحادث قاتل. ولكن لا شيء غير عقلاني في أن يفضل المرء ألا يستخدم جسده كقطع غيار بعد وفاته. ولا نستطيع أن نستخدم النظام الثاني لإثبات خطأ هذا التفضيل. فكيف كنا لنشعر إذا لجأنا إلى استغلال الكسل في اتخاذ القرارات وفقاً للنظام الأول لتغيير الافتراضات الأساسية بهدف (خداع) شخص ما وحمله على اتخاذ مسار كان ليعترض عليه بشدة، ربما على أساس ديني؟.

في النهاية، من الواضح أن الأسلوب الذي يتبناه أتباع الأبوية التحررية في لكزنا يعاني من عجز جوهري ولا حل له فيما يتصل بجانب المسؤولية. إن الرأي الذي يزعم أن عقلانية نظامنا الثاني من الممكن أن تشير دوماً إلى الاختيار الأمثل الذي قد يتفق عليه كل الأشخاص من ذوي العقل السليم تصطدم بالفكرة الحديثة المقبولة على نطاق واسع والتي تؤكد أن الاختيارات المعقولة تشتمل على التعددية.

وإن صح هذا الأمر فمن يملك الحق في اتخاذ القرار بشأن المجالات التي يمكن في إطارها دفع الأفراد بواسطة مهندسين اجتماعيين؟ وما هي الخيارات التي من المفترض أن يشجعنا مهندسو (الوكز) على التوجه نحوها؟ ومن سيتولى وكز مهندسي الوكز؟.

أخشى أن هذه التساؤلات ما تزال في انتظار إجابة مقنعة.

***

ريكاردو ريبوناتو محاضر زائر لمادة التمويل الحسابي بجامعة أكسفورد، وأستاذ مساعد في إمبريال كوليدج وكلية تاناكا للتجارة، والرئيس العالمي لقسم مخاطر السوق والتحليلات الكمية لدى رويال بأنك أوف اسكتلندا - أكسفورد

Copyright: Project Syndicate - Institute for Human Sciences 2009

www.project-syndicate.org
خاص بـ(الجزيرة)



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد