Al Jazirah NewsPaper Tuesday  10/02/2009 G Issue 13284
الثلاثاء 15 صفر 1430   العدد  13284
لما هو آت
فضاؤها أرحب...!
د. خيرية إبراهيم السقاف

 

بعد أن انفضَّ مجلس العزاء، جلست إليها..، ابنها الفتى الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره ودعته كآخر من لها..، فهي لم تُرزق بغيره, كما أنها فقدت والديها قبل أن تعي، وحين كان صغيرها يحبو تيتَّم على حين فجأة، قالت: ما الحياة الآن يا صديقتي ؟ في سحَر ليلة البارحة سجدُت لله حمداً أن كنف ابني إليه تعالى، تحسبينني حزنت ؟ لا يا أخيتي بل فرحت له.., أما أنا فمتعودة أن أكون وحدي، عركتني وحدة الطريق، نشأت خارج مظلة الأبوين، مضيت في حياتي دون سند الزوج، صحيح أنني تعشمت كثيرا في ابني، لكنني كنت أتلمس الموت في جبهته..فدربت نفسي على مثل هذا الأمر, أتخيله حين يموت سينتقل لمكان أكثر أمانا من الذي هو فيه, سيكون بعيدا عن سطوة ظالم، وفي مأمن عن عربة مستهتر، وفي راحة عن مكابدة العيش ومرارة الفقر,..أو الخوف من عبثية البشر..

هي تتحدث وأنا أربت على كفيها بين يدي، أتعمق في ملامحها خشية أن تكون مصابة بذهول أو تيه.., لكنها سألتني أن أحتسي كوب الشاي ريثما تصلي هي ركعتين لله.., كنت قد وظفت جميع انتباهتي ووعيي وحواسي معها,... وجدتني أبكي وهي لا تفعل، حزينة وهي متماسكة، مألومة وهي في كامل ابتسامتها.., خشيت أنها مصابة..، بعد أن أنهت صلاتها سألتها أن ترافقني، تمضي معي بعض وقت نزور فيه الطبيب... ضحكت وهي تقول لي: أي طبيب أنجع منه ؟ لقد بلسم كل جرح يصيب قلبي، ولقد أقام كل كسر تعرضت له نفسي، ولقد عالجني من أي ضعف ومنحني دواء يا خيرية لا تجدينه لدى أبرع النطاسيين.., لا إله إلا هو..، ثم, واصلت وهي تبادلني الدور، أمسكت بيدي تربت على خوفي عليها.. قالت: مرري عينيك على رقعة الحياة، انظري ما الذي يحدث فيها، راقبي كل شيء فيها..، تخيف أحداثها، تقض الراحة وتقلق المطمئن، ..أقرأ حروفك تقولين الذي أقول فيها..

قلت لها: إني أطرق غفوة الإنسان، لكنك تمارسين الهروب من إيقاظها, هذه نظرة تشاؤمية يا عزيزتي، وكما الحياة كذلك, فهي أيضا مجال للأفراح والسعادة, بالعمل والعبادة والإنجاز.. ولنا أن نتقبل قضاء الله تعالى فينا برضاء..قالت: أجل، لكن حتى هذا أصابونا فيه، ثم واصلت تقول: احتسابي لله وصبري على قضائه في ابني وزوجي ووالديَّ، ومكابدة الحياة ظنه بعض تبلدا، وفسره آخرون جنونا، وسلبني الكثيرون عقلي,, لم يكشفوا ولن يستطيعوا عن قلبي، لا يعلمون أن العقل لا يجن إلا إذا فرغ القلب من حب الله والاطمئنان لبلسمه.., هو طبيبي، وهو رفيقي، فلا تخشي عليّ..

ذهبت من مجلسها، والدنيا هي الدنيا صغيرة جدا أمام الفضاء الذي تعيشه...وهي في كامل صحتها وعافيتها لأن قلبها عامر به تعالى.. رحم الله ابنك فاطمة..وزادك سعة من فضله صبراً ونوراً وسكينة وقوة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد