Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/02/2009 G Issue 13286
الخميس 17 صفر 1430   العدد  13286
الحبر الأخضر
الكلب الأسود
عثمان بن صالح العامر

 

القصة باختصار..كلب أسود تعرض لحادث سير، كُسِرت فيه قدماه، فأصبح لا يستطيع المشي إلا بصعوبة بالغة ولمسافة قصيرة جداً، استقر به المقٌام قريباً من منزلي، أمرُّ عليه حين الذهاب وأراه عند الإياب، قال لي ولدي معن ذات يوم ( يبه شفت الكلب.. ترى اللي صدمه سراج، الصبح وهو رايح يوديني للروضة!! )، رد أخوه( عبد الله ابن الثامنة من عمره ) لا يبه ما هو سراج، بس قلنا للسراج خل نوديه للمستشفى.. ضحك وقال ( لو كان ما هو أسود ولا كلب كان وديته، لو دجاجة أوديه).. عرفت من هذا الحديث الطفولي أن هذا الاتهام مجرد خطة صغار تتوقد قلوبهم رحمة وعطفاً على هذا الحيوان المسكين - في نظرهم - العاجز عن الحركة والكسب، والهدف في النهاية استدرار مشاعري إزاء هذا المخلوق.. كان هذا الحوار البسيط في ألفاظه العميق في دلالته منذ ما يقارب الشهر، وصار الأطفال، بل وأنا معهم منذ ذلك الحين وحتى اليوم نرقب الكلب في كل مشوار نضطر فيه المرور عليه، ويحزننا ما هو فيه من حال، أكثر من هذا، صار الأطفال يطلبون من أمهم أخذ بقايا الطعام ( اللحم والعظام) لهذا المعاق العاجز، ذات مساء تحقق لهم ما يريدون ووقفت بجوار الكلب الذي لا يستطيع الحراك فتحفزوا جميعاً للنزول من أجل إعطائه ما كان معنا له، رغم أنهم يخافون جل الحيوانات. وفي الأسبوع الماضي، وعندما اشتد المرض بهذا الكلب ولم يستطع التحرك نهائياً وضع أحد الجيران تحته فرشة حمراء جديدة..فور مرورنا به صرخ (معن) يبه راع الكلب، تحته فرشة علشان البرد، وبنفس المعنى وبلغة مكسرة تحدثت (رانيا) الصغيرة.. صدقوني أنهم كانوا يتابعونه دائما متابعة المهتم المتأثر، حتى أنهم مرة شاهدوه بصورة أشد من حالته الطبيعية فقال عبد الله بلغة حزينة (يبه الكلب، خلاص شكله يبي يموت)، ومرة لم يروه في مكانه فظنوا أنه قد مات ونُقل إلى مكان آخر.. حكاية قد يظن البعض منا أنها لا تعني شيئاً، ولا تستحق أن يٌكتب عنها أو حتى مجرد إشارة، فربما مرّ على كل منا أشد منها وأنكى، ولكنني على العكس من ذلك أعتقد أن مثل هذه المشاهد التي نراها في شارع الحياة صباح مساء وتثير انتباه أطفالنا ينبغي توظيفها تربوياً وتعزيز أثرها القيمي عند الصغار، بل وتوسيع دائرتها لتصبح أكثر شمولية وأعمق دلالة وهذا نهج نبوي معروف، لقد فعلت هذه الصورة فعلها بصغاري، وما زالت، وأعتقد أنها كذلك فعلت فعلها بصغار من يمرون في هذا الشارع ويرون ما نرى كل يوم، بل ربما كان أثرها عليهم أقوى والتفاعل معها أكثر، هذا مع حيوان فكيف لو كان بشراً!!، إن جذوة الرحمة التي فُطر عليها الإنسان حقها أن تروى بماء الإيمان ويهتم بها، وذلك من أجل أن تربو وتزيد ويكون لها ظلالها على جوانب حياتنا المختلفة وهذه مسؤولية ملقاة على مؤسسات التنشئة الاجتماعية المعروفة وعلى رأسها الأسرة، إن الاتهام الموجه لكثير منا -نحن أبناء النفط- أننا نعيش زمن الأنانية المفرطة وحب الذات القاتل، وأننا لا نحمل في قلوبنا رحمة ولا نعرف للعطف طريقاً؛ سواء بين بعضنا البعض أو حتى مع الحيوان، مع أن الرحمة خلق يدل على سلامة الطبع وسمو الروح ونقاء النفس، وكلما زادت معاني الرحمة في الإنسان كان إلى الله أقرب، كلنا يعلم أن الرحمة بالوالدين واجبه {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}ومع ذلك يهمل البعض منا القيام بهذا الواجب!! الخدم والعمال وذوو الحاجات الذين يعيشون معنا ويقومون على تلبية حاجاتنا - صباح مساء - لهم علينا حق الرحمة، والصغير يحتاج إلى رحمة، خاصة (اليتيم والبنت)، بعض الأمهات - وللأسف الشديد - ما في قلبها رحمة على صغارها، فكيف على أطفال الآخرين!!، والكبير الذي رق عظمه وشاب شعره وخارت قواه يحتاج منا إلى نظرة حانية وكلمة طيبة، ورحمة فياضة؛ فهو مَنْ نظر الله سبحانه وتعالى إلى ضعفه وقِلّة حيلته فرحمه وعفا عنه، والطالب ونحن نعيش أيام الامتحانات يحتاج إلى رحمة من معلمه ومدرسته، والحياة الزوجية تقوم على ركيزتين أساسيتين {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً.} ؛ فالرحمة بين الزوجين منّة من الله أصلاً، لكن أين هي في واقع بيوتنا إذا ضعفت المودة أو حتى فقدت لا سمح الله؟، ومن مواطن الرحمة: الرحمة بالمرضى والمعاقين الذين يعيشون في هذه الحياة ويشعرون بالعجز والقصور، والدمج لهم في المجتمع تذكير بالنعمة التي نرفل فيها ونتقلب بها أولاً وبحقهم على السوي القادر. ثانياً والواجب علينا تربية أولادنا على حسن التعامل معهم والرحمة بهم، ورحمة المسلم التي هي في الفطرة أصلاً ليست مقتصرة على بني الإنسان؛ بل هي رحمة تشمل حتى الحيوان ( دخلت امرأة النار بسبب هرة حبستها)، (ودخلت بغي الجنة لأنها سقت كلباً)، ( وفي كل كبد رطبة أجر)..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد