Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/02/2009 G Issue 13286
الخميس 17 صفر 1430   العدد  13286
إيقاعات
ثقافة الخروج إلى الشارع!
تركي العسيري

 

قلبي مع هؤلاء الناس البسطاء والغلابا والمساكين من أبناء أمتنا العربية، الذين يقودهم السياسيون إلى الشوارع والساحات ليحققوا من خلالهم مكاسب سياسية أو شخصية تعود عليهم لا على تلك الجماهير الطيبة والمسكينة والباحثة عن رغيف الخبز، وحليب الأطفال.

حين أشاهد تلك الجماهير الغفيرة وهي (تجرجر) خطاها في الشوارع، وتتسمر في الساحات والميادين العامة، وتتقطع حبالها الصوتية بالهتاف.. بشعارات ظنناها قد اختفت من حياتنا السياسية مع اختفاء شريحة من حكام الستينيات وشعاراتهم عن (الإمبريالية) والرجعية والاستعمار.

أتساءل بصدق:

هل نحن حقاً أمام ظاهرة جديدة في مشهدنا العربي.. تتعلق بشحن الجماهير و(الغوغاء) للتعبير عن مواقف لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟

هل نحن أمام ثقافة جديدة، ثقافة صاغها بعض الساسة، ونفذها الجمهور الغلبان.. يمكن أن نسميها (ثقافة الخروج إلى الشارع) مع ما يرافقها من تدمير الممتلكات ومحاصرة السفارات! أتذكر تلك (الطرفة) التي حدثني بها صديق مصري حكاها له أبوه.. عن أحد جيران الأسرة القدامى الذي كان (يعتاش) بطريقة أو بأخرى من التظاهرات في أواخر الأربعينيات وكان يعلِّق في غرفته الوحيدة لافتتين.. إحداهما تحمل عبارة (يحيا الوفد) وفي الثانية (يسقط الوفد)؛ وحين تتجمع الجماهير و(تزأر) يسأل بعفوية:

بتوع مين دول؟!

فإذا قيل له: (بتوع الوفد)! سارع بإخراج لافتة (يحيا الوفد).

وإذا قيل له إن التظاهرة لحزب معارض للوفد.. أخرج لافتة (يسقط الوفد)!.

هذه (الطرفة).. تدل على أننا شعب طيب، ومطواع لكل من أراد أن يخرجنا إلى الشارع تحت أي ذريعة، حتى ولو أدى ذلك إلى خلق الأزمات المعيشية، أو الفلتان الأمني، أو نشوء منطق (اللاعقلانية) على حساب منطق العقل والحكمة والحوار التي هي وحدها التي تقودنا إلى الحلول المثلى والمنطقية.

ويبدو لي أن عملية التظاهر لا تعبر بالضرورة عن القناعات النهائية للمواطن المنخرط في العمل (التظاهري).. بل قد يجد من ورائها مكاسب شخصية - مما أدى إلى وجود (شريحة) من المتظاهرين الذين يجيرون مواقفهم لقاء ما يقدم لهم.. دون اعتبارات وطنية أو أخلاقية.. وهذا ما فطن إليه أخيراً مواطن ألماني أسس شركة لتأجير المتظاهرين! فقد نشرت (الشرق الأوسط) في عددها 10276 عن مؤسس الشركة (ماركويو نغمان) من برلين، الذي قال عبر صفحة (ايرينتو.كوم) إن الشركة بدأت تقدم خدماتها (التظاهرية) منذ الأسبوع الماضي وكان الإعلان: (لديك موقف من شخص أو حزب أو شركة أو دائرة ولا تملك الوقت الكافي للتعبير عن رأيك بالتظاهر ضده. اتصل بنا.. لدينا شباب وشابات في منتهى الحماس للتظاهر وجاهزون للتأجير وقتما تريد..!!).

والثمن المطلوب - كما جاء في الإعلان (145) يورو للمتظاهر الواحد يا بلاش!! إذن فنحن لسنا وحدنا هذه المرة.. بل هناك من يشاركنا ومن دول متقدمة أيضاً!

السؤال هو: هل يمكن أن يكون الشارع العربي هو الحكم.. في ظل حالة (التهييج) التي يمارسها بعض الساسة بالعزف على وتر (المقاومة) و(ثوابت الأمة)، والمذهبية بصورة أخرى.. هل الشارع هو المكان الأمثل لمعالجة مشكلاتنا، و(تصفية الحسابات)؟

في ظني أن المواطن العربي في حاجة إلى أن نعلمه (الحوار) الذي يفضي إلى الحل، وفي حاجة إلى أن نعلمه أن (الوطن) يعلو على الطائفة والعرق وأن القيمة الحقيقية للإنسان تأتي من خلال انتمائه لهذا الوطن، ومن خلال التزامه بالخط السياسي المعتدل والحكيم. هناك ساسة (ماكرون) لهم طموحاتهم وتوجهاتهم وأجنداتهم غير البريئة والمرتهنة لقوى خارجية ساهموا بقدر أو بآخر في تقديس الطائفة واحتقار الوطن. نحن بحاجة إلى أن نعلم المواطن العربي معنى الانتماء والمواطنة، ومعنى أن يخسر الإنسان وطنه. الدين مقدس لا شك.. غير أن الوطن مقدس هو الآخر.

بودي لو أن أحداً من دعاة (الأممية) قد طرد من وطنه الأصلي الذي رعاه وعلمه ليعيش في وطن آخر، ليرى حجم الهوان والتشرد والذل الذي سيعيشه هو وأسرته.

أنا حزين، ومحبط، ومتوجس من مستقبل أمتنا العربية.. ففي الأفق تبدو سحب رمادية تشي بولادة عالم عربي ممزق وطائفي ومحتقن. أخشى ما أخشاه على بعض دولنا العربية ذات التركيبة السكانية المتباينة أن يسود فيها (الرعاع والطائفيون).. ويغيب عنها الحكماء والوطنيون، وعندها.. على من تدق مزاميرك يا.. داوود؟!!



alassery@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد