Al Jazirah NewsPaper Friday  20/02/2009 G Issue 13294
الجمعة 25 صفر 1430   العدد  13294
تحسين أوضاع المعلمين ضرورة لرقي المجتمع
عبد الله بن محمد السعوي

 

...ثمة رجال أكفاء وطاقات حيوية ننظر إليها بعين الاعتزاز ونفخر في انتمائه اللوسط التعليمي، وذلك لما تقدمه من عطاءات ثرة نرى انعكاساتها الفاعلة في الإيجاب على أرض الواقع. تلك النماذج تنتشر وبشكل واسع في الميدان التعليمي، وهي في الجانب السلوكي والمعرفي قدوات....

...نموذجية ينبغي للنشء استلهام عطاءاتها والنسج على منوالها.

الميدان التعليمي يزخر بنماذج فذة ورجال مخلصين نذروا أنفسهم لخدمة التعليم, والمؤسسات التعليمية ناطقة بذلك، فجنباتها تكتظ بقدوات شتى، فهناك المعلم المتفاني المطبوع بروح أبوية وقدرة غير عادية في فن التعامل مع الطلاب, إضافة إلى تمتعه بثقافة واسعة, وشخصية جذابة, وقدرة على الحوار والإقناع والتأثير. وذلك المرشد الطلابي القدير الذي يقرأ في عيون طلابه وتقاسيم وجوههم ما يقلقهم, ويلمس من نوعية حركاتهم الهموم التي تؤرقهم وتحسر من أدائهم, وتلقي بظلالها على كافة سلوكياتهم, لديه سرية كاملة فالمعلومات التي بحوزته عن البيوت, والتفاصيل الأسرية, تبقى لديه دفينة الذاكرة لا تبرحها, ولا يبوح بها في أي حال من الأحوال. وهناك ذلك الوكيل الذي يجمع بين الحزم واللين, ويتعامل مع بعض تجاوزات الطلاب على أنها أشياء طبيعية تمليها مرحلة المراهقة فلا يضخمها ولا يبالغ في تصويرها, بل ويبدي مهارة فائقة في احتوائها واستيعابها بآلية فنية نادرة من نوعها. وهناك ذلك المشرف التربوي, الذي هو بطبيعته قيادي من الطراز الأول, ولديه قدرة على منح إضافة معرفية للمعلم الطموح, وتغيير مسار المعلم الفوضوي, وبعث الطاقة الكامنة لدى المعلم الكسول. كل ذلك يوجد في الحقل التعليمي ولا يمكن تجاهله بحال, لكن ثمة ما يكدر صفو هذا الإشراق -كما هو الوضع في أي حقل من الحقول ففيه الغث والسمين- فهذه الصورة التعليمية الوضاءة يقابلها صورة معاكسة تتمثل في تلك النماذج التي تسيء إلى التعليم, وتشوه المقام اللائق الذي يجدر بالمعلم أن يتبوأه في أمة تعلي من قيمة العلم, وتبذل الغالي والنفيس في سبيله.

تلك النماذج تتمثل في ذلك النمط من المعلمين ممن ينعدم لديهم الإحساس بالقيادة وذبل لديهم الشعور التربوي, فهم يمارسون بوعي أو بدونه أدواراً تخريبية, إنهم يحضون تلاميذهم وبشكل غير مباشر - من خلال مسلكهم الشخصي- على التفاهة الخلقية والانحطاط السلوكي!.

إن التعليم كما أنه ينطوي على ذلك الجانب المشرق, فهو أيضاً ينطوي على ذلك النمط الهزيل من النماذج التي تسير بالتعليم وبسرعة جنونية إلى الخلف!

لقد ابتذل التعليم في بعض الأوساط وبات مهنة لمن لا مهنة له, وبدأ يلتحق به من هبَّ ودبَّ, وصارت عقلية المعلم لا تختلف عن عقلية الطالب, فالاهتمامات واحدة, والهوايات متقاربة, والمفاهيم والأفكار بات الطابع العام لها قاسماً مشتركاً بين الاثنين!, بل حتى محتويات الهاتف النقال لدى المعلم هي ذاتها لدى الطالب, لأنهما وبشكل مستمر يتبادلان المقاطع! ذلك النمط يتمثل في تلك الشريحة من المعلمين ممن انخفض مستوى مكانته في نفوس طلابه, فهو كثير المشكلات معهم, لا يجيد إدارة الفصل, متواضع في كفاءته المعرفية, متدن في درجة اهتماماته, إنه يعيش خارج نطاق التعليم, لا يتقن سوى الثرثرة, ولا يجيد غير الهذر, فهو يُمضي زمن الحصة في حديثه عن رحلات برية, أو تحليلات رياضية أو استعراض لأسعار الأسهم!, وهكذا فهو يعيش في واد والتعليم في واد آخر, مشكلة هذا الصنف أنه لا يحفل بالتعليم, ولا ينظر إليه كبعد رسالي أو على أقل تقدير كواجب وظيفي!.

وثمة فئة أخرى يبدو أحدهم بنظرات صارمة ووجه غارق في الجد، إنه صارم الملامح, حاد القسمات, مجرد دخوله يزرع الصمت في أرجاء الفصل, ويقمع الشفاه التي تتداول بينها الحديث البريء, علاقته مع الطلاب علاقة رسمية, تخلو من التودد والملاطفة, الطلاب بالنسبة له مخلوقات من الدرجة الثانية, وكأنهم فُطروا من طينة أخرى! لا يصغي لهم, ولا يتقبل آراءهم, بل مجرد المعارضة له تُحفظه حتى ولو تمت بأسلوب مهذب, فإنها تطيح بتماسكه, وتنال من هدوئه, بل يعتبرها تمرداً على مقامه الجليل! غالباً مثل هذا الصنف غير متمكن من مادته, ولو وُجه إليه سؤال لبهت وظهر عليه الوجوم, ولذا فهو يمنع الأسئلة ستراً لجهله.

هناك من المعلمين من لا يفتأ يهدد الطلاب ويتوعدهم بأسئلة نارية, وامتحانات معقدة, تتهاوى أمامها قدراتهم, وتخور من حدتها قواهم! أيضاً هناك ذلك المرشد الذي هو في الحقيقة بحاجة إلى من يرشده, ويوجهه, ويأخذ بيده, ويقوّم سلوكه, فهو يمتهن مهنة لم يؤهل لها بل هو متطفل عليها, وقد يكون هو الآخر يعاني من حزمة من المشكلات التي يبحث عمن يساعده على تجاوزها.

مثل هذا المرشد الذي ينهش التعليم من الداخل, لديه تطلع فضولي شديد، فهو تواق لمعرفة أسرار الطلاب, والاطلاع على خبايا البيوت, وهو مع كل ذلك لا يعتمد السرية والكتمان في تعامله مع قضايا طلابه! أيضاً هناك ذلك المشرف التربوي الذي يمثل عبئاً على التعليم, دخل مهنة الإشراف على سبيل الخطأ, فعلاقته بالإشراف علاقة شكلية, تدرك ذلك منذ أول وهلة, ومن أول جلسة عابرة, عندما تتبادل معه أطراف الحديث تلمس عمق سطحيته, ودونية وعيه الذي لم ينضج بعد!, إنه دخل هذه المهنة طلباً للوجاهة فقط, فهو يشعر أن لا قيمة له إلا بها.

إنها مهزلة بكل المقاييس أن يسند الإشراف إلى مثل هذه النوعية الخرقاء التي تتعامل مع المعلم بآلية تحسر من عطائه, وتحد من فاعليته!.

أيضاً هناك مدير المدرسة, الذي تقلد مركزاً أكبر وبكثير من إمكانياته, فهو بسبب قدراته الهزيلة, وشخصيته الكسيحة, غير قادر على إدارة مدرسته بشكل تربوي, ولذا فهو لا يتصرف إلا برعونة مفرطة, وببيروقراطية قاتلة, وبحماقة متناهية, نفرت المعلمين, وهمشت التلاميذ, وخلقت جواً متوتراً أول ضحاياه هم الطلاب الأبرياء، هذه الحماقة ضاءلت كثيراً من فاعلية أدائه الإداري وقللت من فرص إقامته لعلاقات ودية مع معلميه, إنها كارثة أن يسلم مثل هذا الفقير في الوعي, قيادة مؤسسة تربوية أخذت على عاتقها نشر الوعي العام! إن مثل هذا النموذج لا يلام فهو تقدم للإدارة لأنه وجد السبل ميسورة والفرص مواتية, ومتاحة لأمثاله, وأدرك أيضاً أنه لا يوجد أحد سيحاسبه أو يقف في طريقه, الأمر الذي أغراه بالإدارة, وجعله يُقدِم عليها غير هياب ولا وجل!

اللوم في الحقيقة يقع على من اختاره, وسلمه موقعاً لا تطاله قدراته المتهافتة!

اللوم يقع على المسؤول الذي ترك الباب مشرعاً لمن يملك الكفاءة ولمن يفتقدها على حد سواء.

أيضاً على مستوى الوكلاء هناك من هو مصاب بسادية حادة تبدو آثارها من خلال قسوته على الطلاب فهو يصرخ في وجوههم, يعنفهم يحتقرهم, يزدريهم بل قد يناديهم بأسماء بعض الحيوانات.

إنه يرمقهم بنظرات عسكرية صارمة, توهماً منه أن هذا هو الكفيل باستنبات الذعر في أفئدتهم, ولذا فهم يعيشون في رعب دائم خوفاً منهم في ظل هذا المناخ الإرهابي أن يؤخذوا على غرّة! عندما تسري في المدرسة همهمة ما, هنا يطل من عينيه بريق وحشي يتطاير كالشرر, ويتدخل بصرخات رادعة للجم الجلبة التي يُخشى أن تسود المكان. الطالب المسكين يعيش في حالة مستمرة من الهلع الذي طالت آثاره المحتوى النفسي له, فالجو حوله مكتظ بمعاني الرهبة المنبعثة من هذا الأسلوب البلطجي! إن المصيبة تكون أعظم عندما يستخدم هذا الأسلوب الهمجي مع طلاب الصفوف الأولية, حيث إنه يوجد من بين معلمي الصفوف الأولية من يستعرض عضلاته على الأطفال, يفرغ شحناته النفسية من خلالهم. كثير من طلاب هذه المرحلة لا يستطيع أن يتحدث أمام معلمه بل يضطرب ويرتجف, ينعقد لسانه, وتأخذه رعدة يتصبب على إثرها عرقاً. طبعاً هذا -في حس بعض المعلمين- دلالة على قوة الشخصية والنجاح في السيطرة على تلاميذه!!.

هناك أعداد كبيرة من الطلاب كرهوا المدرسة, ونفروا من التعليم, بسبب القسوة الحادة من قبل معلم, بل وهناك نسبة كبيرة بسبب هذا التعاطي الفهلوي بدأوا يعانون من أمراض نفسية كانت سبباً في إعاقتهم, وعدم تناغمهم مع المجتمع من حولهم.

هذه الشريحة من المعلمين بحاجة إلى مد يد العون لهم وحمايتهم من أنفسهم, وإخضاعهم لبرامج تدريبية عالية المستوى.

إنه لتطوير التعليم لا بد من عدة أمور من أبرزها:

أولاً: وضع أسس معيارية دقيقة يجري عبرها اختيار المعلمين, واصطفاء الأقدر منهم من حيث الكفاءة المهنية مع ضرورة تفعيل السنة التجريبية لفلترة القائمين على تلك المهنة بحسب هذا شرط يترتب على افتقاده أن يلتحق بالسلك التعليمي فئات غير مؤهلة للتعليم, فهي تلتحق به لا عن كفاءة وفاعلية, بقدر ما هي رغبة فيما يوفره الانتماء لهذا السلك من عطايا وحوافز مادية.

الثاني: إذا تم توفير الشرط الأول ونجحنا في استقطاب النماذج الأكثر عطاء وفاعلية فإن هذا يقودنا إلى استدعاء الشرط الثاني المتمثل في زيادة الرواتب, فصعوبة الحياة المادية, وتعسر ظروف المعيشة, وكثافة الضغوط الاستهلاكية باتت بعبعاً مخيفاً يلاحق مختلف الشرائح الاجتماعية. والمعلمون أحد تلك الشرائح وهم بحسبهم المعنيين ببناء الوعي العام, وتشكيل مشاعره, وصياغة رؤيته للحياة والأحياء, في حاجة ماسة إلى إزالة كل المعوقات التي قد تسهم في تشكيل نكسة لأدائهم التعليمي, وهذا يتطلب خلق مناخات مادية أكثر أماناً يستطيع من خلالها المعلم أن يعطي وينتج بكل كفاءة واقتدار. إن المعلم في حاجة ملحة وخصوصاً في ظل الارتفاع الفاحش للأسعار إلى دعم مادي عبر مضاعفة الحوافز, وتقديم المكافآت الإضافية وخصوصاً للذين يقومون بأنشطة مضاعفة. إنه حينما يتم اختيار المعلم المؤهل, ويتم تحسين أوضاعه المادية, فإن المجتمع هو الرابح الأكبر لأن ذلك سيسهم في تأمين تعليم نوعي أرقى لأبنائه.

الثالث: ضرورة إعادة النظر في نصاب الحصص, وتقليل هذا النصاب كما هو المعمول به في بعض الدول العربية, حيث يقل نصاب المعلم كلما زادت سنوات خدمته, من المفترض ألا تزيد الحصص عن ثماني عشرة حصة, مع الأخذ بالإعتبار تخصيص معلمين لتعليم الكبار, واستغلال ذلك في توظيف عدد كبير من الخريجين الجدد, فهذا سيساعد وبشكل ملحوظ على منح المعلم ما يحتاجه من الراحة, ويقلل من العبء الذي ينوؤ به كاهله ليتمكن من ثم من العطاء بشكل أكثر إنتاجية وبالتالي يكون المجتمع هو المستفيد الأول والأخير.



Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد