Al Jazirah NewsPaper Friday  20/02/2009 G Issue 13294
الجمعة 25 صفر 1430   العدد  13294

«الجزيرة» تبحث عن وسائل العلاج
المتناقضات بين أداء العبادات.. وفعل السلوكيات في المجتمعات الإسلامية!

 

«الجزيرة» - خاص

من الظواهر التي يعاني منها المجتمع المسلم في الآونة الأخيرة، بروز التناقضات لدى بعض أفراده في أخلاقياتهم وسلوكياتهم؛ ففي الوقت الذي يحرصون على أداء العبادات من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، ونحوها من أنواع العبادات المختلفة، نجد أن تعاملاتهم وسلوكياتهم الاجتماعية تتناقض مع التزامهم بتلك العبادات التي تدعو إلى حسن التعامل مع الناس، واللطف بهم، وحسن الخلق، ولين الجانب، قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).. فإلامَ يُعزى ذلك؟ وكيف نعالج هذا الانفصال بين العبادات والمعاملات؟ وما دور العلماء والدعاة والمصلحين في هذا الصدد؟ في هذا التحقيق نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة.

تربية الأمة من جديد

يقول د.أحمد بن موسى السهلي رئيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمحافظة الطائف: الدين الإسلامي الذي ارتضاه الله تعالى لنا منهجاً وتعبدنا به هو مجموع الأوامر والنواهي والتشريعات التي شرعها لنا من عقائد وعبادات ومعاملات وتبيان الحلال والحرام وسائر التنظيمات الاجتماعية، كل ذلك بمجموعه هو الدين، أعلاه قول: (لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) كما في الحديث، وهو كل لا يتجزأ متكامل لا انفصال لبعضه عن بعض، وهو المنهج الإلهي الذي ارتضاه لعباده وأتم به النعمة؛ فالخروج عن جزء من أجزاء المنهج الإلهي نقص في الامتثال وقد توعد الله أمة من الأمم أخذت ببعض الكتاب وتركت البعض الآخر؛ فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ}، فالإسلام نظام شامل، يحكم الإنسان في جميع تصرفاته وفي كل حالاته وفي خاصة نفسه وفي صلته بالله تعالى، وفي علاقاته المختلفة العديدة بالمجتمع الإنساني كله؛ فهو الدين الشامل الكامل كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسلام دِينا} وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ وبهذا تمتد مفاهيم العبادة لله تعالى في الإسلام. قرر هذا المعنى الإمام المجدد المجتهد شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في رسالته (العبودية)، وأبان - رحمه الله تعالى - أن للعبادة أفقاً رحباً ودائرة واسعة؛ فهي تشمل الفرائض والأذكار والنوافل من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وجميع أنواع التعبد من تلاوة للقرآن ودعاء، واستغفار، وتسبيح، وتهليل، وتحميد، وإخلاص لله، ورضا بالقضاء والقدر، والتوكل على الله تعالى وحب له وخشية، وإنابة إليه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وجهاد في سبيله، إضافة إلى شمول العبادة لحسن المعاملة، والوفاء بحقوق العباد، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والإحسان إلى الجيران والأيتام، والمساكين وابن السبيل، والرحمة بالضعفاء، والرفق بالحيوان؛ فهي تشمل الأخلاق السامية جميعها، والفضائل الإنسانية كلها من صدق، وأداء للأمانة، ووفاء بالعهود، والصبر، والحلم، وأدب الحديث، وسلامة الصدر من الأحقاد والكلمة الطيبة، والابتسامة المشرقة؛ فتتسع دائرة العبادة حيث تكون هي: الضابط لكل سلوك الإنسان والمحرك له والفاعل الدائم فيه؛ فليست العبادة في الشعائر التعبدية فقط من صلاة وصيام وزكاة وحج ونحوها من أنواع العباداة، بل شاملة لكافة السلوك الإنساني وفي التنزيل الحكيم: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.

ويستطيع المرء في ضوء هذا المفهوم الشامل أن يكون متلبساً بعبادة مولاه في كل وقت في طعامه وشرابه ولباسه ويقظته ومنامه وصمته وكلامه، وسعيه في اكتساب رزقه وخطرات القلب والانفعالات وكل ما يأتي ويذر، وكل ما تستطيع إرادته التحكم به، ما دام متقيداً في كل ذلك بما شرع الله تعالى وفق أحكام دينه، ملاحظاً ابتغاء مرضاته والتزام طاعته، وفي صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم إن وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -، وذلك إذا نوى بالمضاجعة إعفاف نفسه وإحصان زوجته، وطلب ما كتب الله من الذرية الصالحة.

المتناقضات الواضحة

يؤكد د.السهلي أن في المجتمع المسلم المعاصر برزت وتبرز تناقضات واضحة ومجافاة مقيتة بين العبادة والسلوك الاجتماعي؛ فكم من مصل صائم مثابر على أداء الصلوات في أوقاتها قائم بالعبادات البدنية، بيد أنه لا تبدو عليه سمة مكارم الأخلاق جلية وهي التي بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتتميمها؛ فهي أسس الفضائل والترجمة الحية لآثار الصلاة فربما كان فيه جفاء وغلظة في التعامل، أو شح أو إمساك في ميدان الإنفاق وربما لا يوجد فيه الصبر والاحتمال إذا استحكمت الأزمات وترادفت الضوائق وطال ليلها، وربما افتقد الرفق والأناة اللذين يحبهما الله ورسوله، وهكذا تضيع معالم الهداية التي كان من المفترض أن يتحلى به في سلوكه الاجتماعي، وهذه من الظواهر التي تتراءى لنا هنا وهناك وهذا انفصام نكد بين العبادة والسلوك والمعاملات، وعلل تنخر في جسم مجتمعاتنا، ويجب على المخلصين التركيز على محاولة معالجتها ومحو أدرانها وهذا في الحقيقة مرده إلى أمور:

1 - الذي يظهر من هذا التناقض البيّن قد يكون مرده إلى الجهل؛ فبعض العامة يعتقدون أو يتوهمون أن العبادة مقتصرة على الصلاة والصيام والحج ونحوها، والصلاة والصيام والحج والزكاة هذه العبادة لها مقتضى في الأرض وفي الحياة الدنيا قبل الآخرة؛ فالله حينما شرع هذه العبادات جعل لها غاية في الحياة الدنيا حيث قال: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)؛ فالصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر في الدنيا أمَّا الآخرة فحساب بلا عمل.

أما التحلي بمكارم الأخلاق، فمع الأسف أن أكثر المصلين لا ترتقي عبادتهم إلى درجة ضبط السلوك وحسن الخلق؛ فهم يعلمون أن حسن الخلق مطلوب إلا أنه في نظرهم ليس من صلب الدين ولا من مهمات الشرع ومتطلباته، وبناء على ذلك فلا حاجة إلى ضبط النفس ومجاهدتها حتى تفيء إلى تحقيق هذه السمات العليا، وهذا الصنف يجب أن يركز دعاة الأمة ومصلحوها على وجوب التوعية الصحيحة وإيصالها إليه والإشادة بأن الدين الإسلامي يتسم بالشمولية في كل شيء من عبادة ومعاملات وسلوك حسن ووفاء وصدق وحلم، وصبر وكظم للغيظ، وكل ما يقع بين الناس من تعامل وخلطة، وغير ذلك، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء} وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء}.

والعلماء المخلصون الربانيون - كما أمرهم الله - هم القادرون على زرع القيم والمثل العليا في الإسلام في عقول ونفوس وأفئدة العامة والخاصة، بطرقهم المؤثرة التي وهبهم الله إياها؛ لتصحيح مفاهيم الناس القاصرة؛ حتى تتفتح أذهانهم، ويستوعبوا التشريع الإسلامي، والفكر الصحيح، والمنهج الفاضل كاملاً، دون أن يقتصروا على جانب من جوانبه المتعددة: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}، ولنأخذ نموذجاً من القرآن الكريم لعلاج هذه الظاهرة التي يعاني منها المجتمع المسلم اليوم، من تناقضات وفصام بغيض بين السلوك والعبادة، ولنأخذ مثلاً في سورة الحجرات لمعالجة هذه الظواهر المشينة التي حفلت بها هذه السورة؛ إذ عنيت بعرض ركائز ومقومات المجتمع الإسلامي الفاضل الذي يعتبر مجتمعاً مثالياً، وأعلنت حرمة المجتمع المسلم؛ فأقامت سياجاً منيعاً يصون عرضه وماله ودمه؛ إذ التقت النصوص القرآنية مع سنة من بعث ليتمم مكارم الأخلاق - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ قال: (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، وفي بلدكم هذا) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -؛ فأضحت السورة كالسنة، إنه يحرم أن يؤخذ المسلم بالظنون، ولا يتتبع العورات، فلا يُغير على أمن الناس، وكراماتهم، ولا يهتك حرماتهم، ولا يقرض أعراضهم، والذي يتدبر القرآن كما أمر الله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ويعمل بما فيه ينضم إلى ركب الإيمان وإلى الصفوة من أولي الأخلاق الفاضلة.

والنموذج الثاني لصفات المجتمع الإسلامي الفاضل ما جاء في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وإذاخَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} الآيات؛ ومن هنا يأتي دور الدعاة والمصلحين، بشرح غرس القيم العليا في الإسلام الواردة في المصدرين النيرين (الكتاب والسنة) وتربية الناشئة على توجيهاتهما.

2 - قد يكون مرد هذا التناقض إلى ضعف الإيمان لا إلى عدم المعرفة؛ فربما ترى رجلاً من أهل العلم والمعرفة، ومن أولي المكانة العلمية، ولكنه في تعامله مع الآخرين يبدو عليه العسر في التعامل، والكبرياء والجفاء، والغلطة في الخطاب، حتى كأنه من عامة المسلمين الذين لم يتأدبوا بآداب الإسلام.

إنشاء الإنسان الصالح

ويبين د.السهلي أن العلاج الناجح والدواء الناجع، هو تربية الأمة على حقيقة هذا الدين، والغاية من التربية هو إنشاء الإنسان الصالح، ذكراً كان أم أنثى، والتربية المقصودة في الإسلام غير التربية في غير الإسلام، لماذا؟ لأن الدين الإسلامي دين عملي، وليس نظرياً؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بعث في مجتمع في جزيرة العرب، وقد خيّم الظلم في نواحيها، وعمت المنكرات في أرجائها؛ فأخرج - بفضل الله وبتربيته الصحيحة - خير أمة أخرجت للناس، ولكننا نرى اليوم في مناهج التربية والتعليم والجامعات مقررات ومعلومات ممتازة، ثم نرى مجافاة بين تلك المعارف، والسلوك، ولا يرون الناس في ذلك عيباً، وأي نقيصة؛ فالذي في الورق كلام، والذي يمارس في الواقع مصالح، والدين الإسلامي الصحيح، والتربية الإسلامية ليسا كذلك (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلا لِيُطَاعَ بإذن اللَّهِ)؛ فالله - سبحانه وتعالى - لا يرسل رسولاً ويؤيده بالوحي، إلا وكان أول المطبقين لوحي الله تعالى والقرآن ليحوي كلاماً جميلاً بليغاً، ومُثلاً راقية عز تطبيقها في عالم الواقع.

ثانياً: العودة إلى سيرة الصحابة الكرام - رضي الله عنهم -؛ لأنهم هم الذين تلقوا الكتاب والسنة وشاهدوا التنزيل ورأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف كان مثلاً يحتذى به واقتدوا به فطبقوا على أنفسهم فتمثلوا حقيقة هذا الدين النظرية والتطبيقية وعلموا أن مبادئ هذا الدين ليست نظريات معلقة في الفضاء بل هو دين عملي جرب وطبق ونجحت التجربة.

ثالثاً: على المربين والدعاة والمصلحين أن يغرسوا في عقول وأفئدة مَن يربونهم ويعلمونهم ويخاطبونهم حقيقة الدين الإسلامي الموجود في القرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة العطرة، وأن يهتموا بغرس الشعور برقابة الله تعالى، وأن الله مطلع على كل صغيرة وكبيرة، وأنه لا بد من الوقوف بين يدي الله تعالى، وأن الله يحاسب عباده على كل قول وفعل، وأن كل صغير وكبير مسطر، وأنه سيأخذ كتابه يوم القيامة لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ فبهذا تسمو حياة المرء، وتكون حياة راقية جميلة كريمة فلا تداس فيها المبادئ العليا.

العبادات والمعاملات معاً

ويقول د.محمد بن سيدي محمد الأمين أستاذ القرآن وعلومه بكلية القرآن بالجامعة الإسلامية: لقد بعث الله نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأمرنا باتباعه والاقتداء بهديه (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)، و(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ). قال ابن كثير - رحمه الله -: (هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله)، وإن المؤمن الحق يجب أن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شؤون حياته كلها، ويتأسى بخلقه الكريم الذي قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}؛ فالْخُلُقُ وإن كان معناه الظاهر هو الطبع والسجية، إلا أن معناه أوسع من ذلك؛ فهو يتعدى إلى المعاملات الدينية والدنيوية؛ ولهذا تصف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقولها: (كان خلقه القرآن). ولما للأخلاق الفاضلة في ديننا الحنيف من مكانة سامية، ومنزلة عالية، قال عنها الشاعر:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فكما أننا مطالبون ومحاسبون على أداء الفرائض من صلاة وصيام وزكاة وحج؛ فنحن أيضاً مطالبون بالمعاملة بالحسنى، والرفق واللين، لكسب قلوب العباد، ودعوتهم بالتي هي أحسن؛ فكم من أمم دخلت في دين الله ولم يتحرك إليها جيش، ولا رفع في وجهها سيف ولا رمح، وإنما دخلها تجار صالحون مصلحون بأخلاقهم؛ فحققوا فيها فتحاً عظيماً، ذهبوا يتعاملون بالدرهم والدينار بصدق وأمانة؛ فحقق الله على أيديهم نشر الإسلام.

إنه الإسلام الذي يربط بين العبادات والمعاملات والأخلاق والسلوكيات في عقد واحد، حتى قيل (الدين المعاملة)، (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، ويقول: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن).

أدرك أعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - فجبذه بردائه حتى أثر في عاتقه، وقال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك؛ فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكاً، ثم أمر له بعطاء.

وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يحلب للأرامل، فلما تولى الخلافة سمع جارية تقول: اليوم لا يحلب لنا، فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم.

وأخبار الفاروق عمر - رضي الله عنه - في لينه وعطفه وتفقده للفقراء والأرامل، مع شدته في الحق، أكثر من أن تعد.. هكذا كان سلفنا الصالح مقبلين على ربهم، مؤدين لشعائر دينهم، مخالطين للناس، ناصحين، ومربين، ومعلمين لهم، متحملين لأذاهم، واضعين نصب أعينهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).

فعلى العلماء والدعاة أن يكونوا قدوة حسنة، وأن يبينوا للناس سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهديه في عبادته، ومعاملته، ودعوته؛ فلا تكمل سعادة المرء إلا باتباع هديه، والسير على طريقته.

قال ابن القيم - رحمه الله -: (وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مقل ومكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم).

إن العبادات التي نؤديها لها آثار حسية ومعنوية على سلوك الإنسان، فإذا لم تظهر آثارها الحميدة على مؤديها علم أن هناك خللاً يجب مراجعته وعلاجه.. وقد قيل:

لا تحسبن العلم ينفع وحده

ما لم يتوج ربه بخلاق

فإذا رزقت خليقة محمودة

فقد اصطفاك مقسم الأرزاق

أزمة أخلاقية

يؤكد الشيخ خالد بن جريد العنزي مساعد مدير عام فرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بمنطقة الحدود الشمالية، أن من كمال هذا الدين عنايته بمكارم الأخلاق؛ فمن مقاصد بعثة النبي - عليه الصلاة والسلام - إتمام مكارم الأخلاق كما ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) أخرجه مالك في الموطأ بلاغاً. وقال ابن عبدالبر: متصل الإسناد من طرق صحاح؛ ولهذا فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان أكمل الناس خلقاً؛ إذ كان - عليه الصلاة والسلام - خلقه القرآن؛ فعن عائشة - رضي الله عنها -: عندما سئلت عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: (كان خلقه القرآن)، ثم إن التحلي بمكارم الأخلاق ليس نافلة من القول، بل هو من صميم دين المسلم؛ ولهذا لما سئل النبي - عليه الصلاة والسلام - عن الدين، قال عليه الصلاة والسلام: (الدين حسن الخلق) أخرجه مسلم؛ فالأخلاق هي الدين؛ ولذلك لا يمكن للعبد أن يؤدي العبادة كما أراد الله تعالى من غير خلق كريم؛ ولهذا جاءت أحكام الأخلاق وتكاليفها على أقسام ثلاثة: حقوق إلهية تتمثل فيما يجب علينا من الإيمان بالله وطاعة أوامره، وحقوق شخصية تتمثل في حقوق التملك والتصرف ضمن حدود الأخلاق، وحقوق جماعية تتمثل في حقوق التعاون والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا أكثر ما يدخل الناس الجنة الخلق الحسن؛ ولذلك عندما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: (تقوى الله وحسن الخلق) أخرجه الترمذي؛ فالخلق الحسن عبادة يحتاج إليها العبد في جميع العبادات؛ فالإخلاص من محاسن الأخلاق يحتاج العبد إليه في جميع العبادات والخشوع كذلك والإخبات لله تعالى، والعطاء من غير منٍّ ولا أذى نحتاج إليه في الصدقة والزكاة والإنفاق على الأسرة، ونحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن من كف الأذى وبذل الندى وطلاق الوجه؛ إذاً فالأخلاق يحتاج إليها العبد في كل لحظة وفي كل عبادة وفي كل تعامل مع الناس؛ ولهذا نجد أن من مقاصد العبادات تأصيل مكارم الأخلاق؛ فالصلاة خضوع وخشوع وإخبات لله تؤصل صاحبها على مكارم الأخلاق وتبعدها عن مساوئها؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تطهر النفس من الجشع والشح، وتربي المزكي على حب المساعدة وبذل المعروف، والأخذ بيد المحتاج، والصيام يربي العبد على الصبر والتضحية، ويذكره بإخوانه أهل الحجة فيحيي به صفة الرحمة، والحج يؤصل في الحجيج التواضع والألفة والأخوة الإسلامية وهكذا سائر العبادات.

ومما يراه المسلم ويدمي قلبه غفلة كثير من المسلمين عن محاسن الأخلاق؛ فتجد بعضهم وهو يؤدي فريضة الحج يقع في مساوئ كثيرة من مساوئ الأخلاق؛ فقد يصلي ويصوم ويحج ويزكي وربما وقع في مساوئ كثيرة وهو متلبس بهذه العبادات العظيمة. والسبب في ذلك أن بعض الناس يجهل فضائل الأخلاق ومنزلتها من الدين، وبعض الناس يعلم بفضائل الأخلاق ومنزلتها من الدين إلا أنه صاحب طبع غضبي، يفقده غضبه كثيراً من الفضائل؛ ولذلك لما سئل الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - عن الخلق الحسن قال: أن لا تغضب ولا تحتد. ومن كانت هذه حاله فهو بحاجة إلى المجاهدة لنفسه وتزكيتها ودفع الأسباب الموجبة لمساوئها، والعلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن صبر صبره الله، وكذلك بعض الناس يغفل عن هذه الفضائل فهو يحتاج إلى تذكير مستمر. وكذلك من الأسباب ضعف المراقبة لله تعالى فإذا حقق حسن المراقبة لله تعالى فهو عندما يتكلم بكلمة أو يتصرف بفعل أو يضع في قلبه نيةً أو معتقداً ينظر هل يرضي الله تعالى أم يغضب الله عز وجل، ومن الناس مَن يجهل كيف يقاوم الغضب بالطرق الشرعية؛ لأن الغضب سبب لمساوئ الأخلاق من النفث والاستعاذة من الشيطان والوضوء والجلوس للقائم والاضطجاع للقاعد وهكذا، ومن الناس مَن يجهل كيفية التعامل مع الآخرين؛ فالإنسان في يومه يتعامل مع الصغير والكبير والعالم والجاهل والغضوب والحليم، وكل واحد من هؤلاء يحتاج إلى فن في التعامل معه، وقد ورد في الشريعة الإسلامية كيف يتعامل العبد مع هذه الفئام في نحو قول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وفي مثل قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، وفي مثل قول النبي - عليه الصلاة والسلام -: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد مَن يملك نفسه عن الغضب)، والحقيقة أن العلاقة بين العبادات والمعاملات علاقة وطيدة؛ فالعبادات حق لله تعالى والمعاملات حق للعبد على نفسه وحق للعبد على إخوانه وحق للإخوان على أخيهم.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد