Al Jazirah NewsPaper Tuesday  10/03/2009 G Issue 13312
الثلاثاء 13 ربيع الأول 1430   العدد  13312
لما هو آت
الحنين.. نبت بذور..!
د. خيرية إبراهيم السقاف

 

العربي كان يحن لمرابعه بعد الرحيل عنها، ويتشوق لآثارها حتى الحجارة التي كانت تقل وعاء مأكله وتضم رماد حطبه, وأسمال الخيام وبقاياها، لذا بدأ قصيده بالحنين والبكاء على أطلال مرقده، ومرفده،.. وهي مشاعر بشرية تتأصل مع تنشئة المرء، فالبيئة تلعب دورها الأساس في غرس بذور الحنين الذي هو تعبير عن الوفاء, ولا تخلو جوانب إنسان من هذه العروق النابضة، أو هذا النبض القلق في الدخيلة، لكنها تتأثر بفعل عوامل الحياة وتأثير الأحياء وعبور المواقف, التي كما تفعل عند نضوب النبع أو جفاف النبت في الأرض، تفعل بها في الوجدان الإنساني.. العربي في الصحراء كانت له علائق وشيجة بأناسيها ولياليها ووقيد نيرانها ودوابها ووحشها، زرعت فيه النخوة والقوة والصبر وشهامة المواقف، لذا كان اجتثاثه من رقعة فيها بعد أن كانت روية ممتدة يحمل له هواؤها الهمسة، والحفيف والصرخة والزئير والكلمة والهدير، ما يستدعي ذاكرته لاستلهام تفاصيلها بما فيها وجه المحبوبة من خلف الخدر بينما القمر يطل وجهه بها في وضاحة النطق,.. أما البيوت الأسمنتية، والشاهقة بحديدها وزجاجها ومعادنها، العازلة عن الصوت والرائحة ماذا تترك للحنين في النفس من آثار..؟ فلقد تجمدت الأخيلة بجمود معطيات الزمن، ولم يبق لها مما يمد هذا الشعور بماء الشوق والحنين ويهيئ لمواقف الوفاء المثول غير الإنسان.. فكيف هو إنسان هذا الزمن..؟ ما كيفية علائقه بما حوله فكيف بمن حوله..؟ وما هي آثاره أو بقاياها؟، هذه البيئة التي يعيشها في جفاف علائقي مزق الكثير من عروق النفوس فتحول إنسان اليوم لآلي يركض من أجل الحياة، ماديها قبل معنويها.., لكنه يبقى على فطرته وهو طفل، ما لم تمسه يد التقدم في العمر، تلك التي تأخذ بصره وحسه وسمعه وذائقاته نحو تشكيل يجرده غالباً من كثير من فطرته ويلبس مشاعره أغلفة من الصلادة والجفاف., غير أن هناك نافذة صغيرة تبقى مواربة في داخله حين خاطر، أو موقف تستدعي باستلهام فيضاني كل ما اختبأ تحت الأغلفة الصلداء، وغطته يد الواقع ليحن فيبكي، ليحن فيشتاق، ليحن فيستدعي لحظة، أو وجهاً، أو صوتاً، أو مكاناً.. فالحنين وفاء، ربما أيضاً لا يفعله بفطرة ونقاء أكثر من الأطفال حين يجدون من يغرس فيهم بذوراً صالحة للنماء.. ذكرني بهذا حين كنت أعبر بشارع الضباب ومعي صغار كانوا يتلقون العلم في مدرسة (دار البراءة)، ولا يزالون فيها.., لكنها انتقلت لموقع أبعد وأشسع، نمت مع نمو أقدامهم, فإذا بهم يطلبون مني أن أوجه السائق ليعرج بهم إلى شارع المدرسة القديمة، وعند أطلالها تذكروا معلماتهم وحارسهم ورفقاءهم، فقد تشوقوا لهذا البناء واستلهموا ذكرياته، وهم تتقافز الفرحة في وجوههم، أعادوا لي الطمأنينة بأن ثمة بشراً لا يزالون يؤسسون لمشاعر الوفاء في الصدور تلك التي انعكست على وجوه الصغار عبدالله وليان ومياد، وتشكلت على وجوههم وألسنتهم عبارات حنين لأول مدرسة..!.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد