حين ترددت صرخة الطهر بحب الوطن، وانساب الحبر على أوراقي، يممت الروح بين أوطان الصحافة؛ فلم أر أجدر من وطني الأول (الجزيرة)، بكلمات وطني الأكبر. إذ لم يكن الوطن يوما صورة لحمامة بيضاء تعانق الحائط وتنسج معه علاقة ود طويلة، أو أغنية تنتشي بها الرؤوس وتنتهي بآخر (كوبليه)..
.. ولا حتى محاضرات يحشر الحضور لها قسراً، تنتهي بفض الجموع.. الوطن لغة أعمق، باقية ما بقيت الدماء في العروق.
الآن حق للوطن وجدان تعقد له الطاولة المستديرة، وتطرح الهموم وتناقش باستفاضة وشفافية؛ حتى تحار الدفوف والأبواق المرجفة، التي تتعمد قذف حجارة الحقد والكراهية. كلنا مؤمنون أن وطننا أعمق وأكبر وأجل وأرفع من أي محاولة نيل، غير أننا في الوقت نفسه يجب أن نلتفت لصب مائنا الأبيض على أرض تحيطنا، حتى يغرق كل صوت صغير.
بين حين وآخر تظهر خيالات بشر توجه بقرون استشعار عن بعد؛ تحمل لافتات كوجوه حامليها؛ كل رسائلها توشحت بالسواد، مخبئة ملامح بشعة، تفاصيلها تعرجات قبيحة، تأمل نثر بقايا سوادها على طريق أبيض.
اليوم فقط يجب أن نؤمن أن كل وجه عبوس سيرد عليه بابتسامة وحدة تبعثر عمقه، وكل حجر طائش سيتفتت على حائط التلاحم حتى تهد قواه، وفتوة العداء ستقهر بحيوية أبناء اقتاتوا الرموز، فنسجوا منها جسدا لا ينثني ليكسر، ولا يتعب فيعصر، حتى يسقط المدعون صرعى في ساحة الوطن.
ترى هل نحن مستشعرون لعظم الوطن كما يجب؟
وهل صرخاتنا أمواج تحتضنها الشواطئ، فتنبت الأوراق الخضراء المليئة بعشقنا الأول؟
سؤال يعقب آخر، والإجابة في قياس العمق في عيون أبنائنا.
كلما عانقت يداي أنامل ابنتي مع الصباح؛ ولمستها باردة، علمت أن هواء الأرض عليل، ومع ابتسامتها؛ أشعر أن كلي يتساقط بدمعة فرح انشق لها القلب.
وخطوات الهدوء المتشبعة بتهاديها إلى مدرستها، تقول داخلي (كم أنت آمن يا وطن)، لذا يحق لي أن أفخر بدفء أحضانك.
ومع عثرتها وهي تهرول نحوي؛ أزجر الغبار عنها، يقينا أن الصورة في (البرواز) البشري لا تكتمل، فأحملها وأنسى العثرة، كحال أولئك الساقطين؛ يبقون عثرة في طريق الانتشاء بوطني.
ومع هدأتها وإغماضة عينها مساء، أتشبع بأيام ترحل وأخرى تجيء، وأرضي تسدل على ستارها.
وقبل أن أغمض عيني، تساءلت؟
ما الذي طال غيابه كي ننسج صور العشق اليومية للوطن؟ ونحن نردد كل يوم ولاءنا ب(سارعي للمجد والعلياء).. قد نمارس العشق كلٌ على طريقته؛ لكن ثمة وثيقة حان وقتها؛ سيهمر عليها كل أبنائنا؛ أوراقها محفوظة بين دفتي (التربية الوطنية).
الوطن سوار للدين، والدين حضن للوطن...
لذا سيكتمل عقد التربية الدينية بالوطنية..
يوم أن صاح قرار تضمين مناهج وزارة التربية والتعليم بإقرار تدريس التربية الوطنية؛ صفقت له الأيدي المستشعرة لأهميته بحرارة...
ولكن...
هل الهدف حقن النشء بكم من المعلوماتية؟
كل ما نحتاج معرفته عن الوطن لا يأتي من خلال هذه المفردات التي تضمنت المقرر الذي يدرس حاليا.
ثمة أسئلة يجب أن نسأل أنفسنا عنها...
ما هي المواصفات التي يجب أن تتوافر في واضعي مفردات التربية الوطنية؟
ما هي الأهداف التي يجب تحقيقها من تدريسه؟
من هم المؤهلون لتدريس مقرر كهذا؟
كيف نحفز المتعلمين للاستشعار أهميته، وبالتالي قياس أهدافه، ومدى تحققها؟
سأتجاوز السؤال الأول، لأن الخوض فيه لا يجدي بفائدة.
أما الثاني؛ فالأهداف يجب أن تصب بدرجة كبيرة في الوجدان قبل المعرفة، لأن الوجدان الأكثر قدرة على توجيه السلوك، وبذلك نكون قد عمقنا ما يقوم السلوك، ويحقق أهم فرع في الأهداف التربوية.
المؤهلون لتدريس مثل هذا المقرر، لا يمكن أن يكونوا ممن لم تكتمل أنصبتهم التدريسية، إذ إن الهدف لا يتحقق إلا من خلال إيمان المعلم بأهمية ما يقوم بتقديمه لطلابه وإدراكه تماما للأهداف المراد تحقيقها، وبالتالي قدرته على اختراق قلوب المتعلمين، ذلك من خلال إشعال العاطفة الصادقة في حب الوطن.
أما تحفيز المتعلمين لاستشعار أهميته؛ فمن خلال ورش العمل الفكرية التي يجب أن يقوم عليها تدريس المقرر، واحتسابه من ضمن المقررات التي تؤثر في المعدل العام لدراسة الطالب.
ومن كل هذا يجب أن نؤمن أن التربية الوطنية، تأتي في مرتبة أعلى من أي مقرر معلوماتي.. وكل ما فات كان صرخة أطلقت من يوم عملت به في تدريس هذا المقرر في التعليم العام، تردد صداها إلى الآن، تفجرت بعد أن استشعرت أن الوقت حان كي نعيد تفعيل الوطن بشكل أكثر دقة في قلوب أبنائنا، لا سيما أن أصوات النشاز تتعالى.
إعلامي وأكاديمي سعودي