Al Jazirah NewsPaper Thursday  09/04/2009 G Issue 13342
الخميس 13 ربيع الثاني 1430   العدد  13342

قولوا لوالدي غازي القصيبي: لا تَتُبْ من الفن !

 

أحسنت إليَّ جريدة الجزيرة أحسن الله إليها بما أعتبره تكريماً منها لي بعد عارضٍ قليل من الجفاء، وهو ملحقها في المجلة الثقافية بترجمة تخصني اطلعت عليها بعد أربعين يوماً أي بعد عودتي من سفر خارج المملكة، ثم فوجئت بملحق آخر عن معالي الدكتور غازي القصيبي؛ فضربت يداً بيد؛ إذ لم أكن شريكاً في التقدير.

وتكريم الجزيرة لي وفاء منها ؛ لأنني من أقدم كتّابها الملتزمين، بل كنت من أول المدعوِّين في أول اجتماع عقده شيخنا عبدالله بن خميس متَّعنا الله به لإنشائها؛ لأكون عضواً بها، فاكتفيت بالمشاركة كتابةً منذ كانت جريدة في عهد الشيخ ابن خميس إلى الآن مع كتابة لا يؤبه لها وهي مجلة.

وصدَّني عن العضوية مرافقة صديق لي شيخ فاضل دُعي للاجتماع، فثبَّط بي، وقال: (أتكون عضواً مع فلان وعلان؟).. وليس في جبلتي أن أحتقر أحداً إلا في سخرية لاذعة في المعارك الصحفية لا تتعدى لحظتها.. وصدّني ثانية قلة ذات يد عجزت معها عن المساهمة؛ فالحمد لله على كل حال؛ إذ لم أكن عضواً.. وبمناسبة (قلة ذات يد) فقد منَّ الله عليَّ آخر عمري بسعيٍ حثيث للضعفاء والمدينين والغرماء، ورزق الله كثيراً بحمد الله على يدي؛ والسر في ذلك ما جَرَّبته من هم وحاجة بسبب أنني أخرقُ مخروق اليد يفرُّ الريال من يدي؛ فبقيت في يفاعي وشبابي وكهولتي مديناً، ولم يتحسن وضعي إلا في الشيخوخة، وبقيت أسيراً لفضلاء كُثرٍ أحسنوا إليَّ أحسن الله إليهم ؛ فكنت أخجل منهم عند مقابلتهم، ومن هؤلاء الدكتور غازي في عهد الملك خالد والملك فهد رحمهما الله، وفي مرات كثيرة، ولا أنسى مرة دعاني صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد رحمه الله لإلقاء محاضرات للطلبة والمشاركين باجتماع من دول الخليج بلندن؛ فاحتفى بي الدكتور غازي أيما احتفاء، وأعطاني بعد الغداء ظرفاً فيه مجلة، وقال: (لعل أبا عبدالرحمن يريد أن يرتاح)؛ فأوصلتني السيارة إلى الفندق، وساءت ظنوني، وقلت: لماذا صرَّفني.. أعندهم شيء لا يريدون أن أطلع عليه؟؟؛ فرميت الظرف على السرير، وصليت، ونمت نوماً عميقاً بسبب الهمِّ وضيق الصدر؛ فلما صحوت ضربت الجرس على القهوة ، فجاءني غير شيبة حمدٍ منتوف اللحية، وقلت له كلمات حفَّظنيها الأستاذ عبدالعزيز الناصر؛ فغلطتُ فيها، وقلت: (بْلِيْزْ فقمي - بالفاء ذات الواحد من فوق - وَنْ تِيْ) والفاء قبيحة، فضرب الشيبة بأصبع على أصبع، وصار يُصَوْفِر، ويرقص، ويقفز في الدرج كالغزال !!.. ولكن بعد دقائق أحضر لي الشاي؛ فلما تكيَّفت، وبدأ يغيب شيء من همي أخذت ظرف القصيبي؛ لأنظر ما في المجلة من مقالة مهمة!!.. فإذا بها مجلة إنجليزية بوسطها ظُريف فيه ثلاثون ألف جنيه استرليني، وبضعة سطور موجزها: (أن المبلغ لشراء هدية لأولادي الكثيرين)؛ فدمعتْ عيني، ودعوتُ له.. وفيما أظن أنني أخبرته في حينها بسوء ظني.

وجاء الدكتور إلى الرياض ولم أره حتى اليوم؛ وإنما كان الاتصال مكاتبةً، وكان أخي الدكتور أمين سيدو عمل ببليوجرافيا عن القصيبي، مع مقالات من قبلي نظَّمتها؛ لتكون مع الببليوجرافيا كتاباً، وكتبت له كثيراً برغبتي في تكريمه بأحديتي، وطلبت الموعد قبل شهرين؛ لأتمكن من طباعة الكتاب؛ فأوزِّعه في الحفل، ويجيبني كل مرة بمواعيد عرقوب يترِب - بالتاء المثناة لا المثلثة -؛ لأنه غارق في العمل إلى أذنِه، وليس بيدي الآن إلا طبع الكتاب وحبس توزيعه إلى أن يأذن الله باستجابة الدكتور الكريم للتكريم ، ولن أُطلعه على الكتاب مسبقاً؛ لأنني سأقول ما أعتقد بلا استشارة.

وكان الشباب يُزوِّدونني بهجمات على الدكتور تمس دينه: مرة تلخيصاً شفهياً، ومرة بأوراق مسحوبة من الإنترنت؛ فهالني الأمر؛ لأنني أعرف الدكتور سليمَ الأديم، نقيَّ الساحة، محباً لإيجابيات تراث أمته.. ولقد صارحني مرة بأنه يغبطني على نشاطي، ويتمنى فراغاً لإنجاز عمل كبير قيِّم ينفع الله به.. وفي ندوة أقمتها لمعالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر - وهو أيضاً ذو إحسان إليَّ لا يبلغه الوصف جزاه الله خيراً -، وجاء الحديث من قبلي عن الدكتور غازي، ومساهمات له للفقراء عن يدي، وعن بث مظالم ضده في الإنترنت؛ فصرح الدكتور عبدالعزيز وهو ذو صلة حميمة به (وكفى به صدقاً وأمانة)، وهكذا الأستاذ حمد القاضي بأنّ الدكتور غازياً ذو دين متين، وشهد الدكتور الخويطر للقصيبي بأنه يتقن أداء الصلاة؛ فاستعرضتُ شريط الذكريات عن كتابات الدكتور غازي؛ فتذكَّرت له كتابات صريحة؛ إذْ جبن غيره في محاورة طلائع الإرهاب الفكري قبل أن يتحوَّل إلى تخريب وتقتيل عملي، وهذا الموقف للشيطان فيه مدخل بالتجنِّي على رجل متين الدين، ويا ويح من هَدَمَ دين المسلم بلا برهان، ووجدتُ له لمسات فنية شعراً ونثراً، وأكثر ما عابوه روايته عن الشقة.. حاربوها عن جهل بواقع الرواية الأدبية، وهي رواية من الأدب الواقعي الذي يقصُّ بأسلوب أدبي صورةً مطرَّزة لما هو واقعي.. والرواية منذ أن بدأت عند الغرب ذات جمال فني بلا ريب، ولكنها وعاء سخي لثقافة جبارة عن البيئة والزمان والمكان والرجال مع إثراء اللغة، ولقد أفدت ثقافاتٍ أعتز بها من روايات أمثال ديكنز وبلزاك، وجرَّني فكريّاً ودينياً وتاريخياً أمثال رواية الإخوة كارامازوف لدوستويفسكي وعمدته (سفر أيوب) الإلحادي المكذوب الذي تبرأ منه النصارى، وكان هذا سبباً لانبرائي إلى هذه المسائل بنشاط بمثل كتابي (الإيمان العلمي) الذي صدر منه جزءان، وغيره.. وليس الفن عند غازي كفن الطرب الذي غرقتُ فيه، وكاد يجعلني من مجاذيب العذريين بمعايشةِ أكثرَ من حبٍّ وهمي حتى منَّ الله عليَّ بالتلذُّذ والإصغاء إلى خير كلام أنزله الله.. لا يروق وقتي بغير سماعه يومياً أكثر من مرة إن قصَّرتُ في التلاوة.. وفنُّ غازي من جماليات الفن الأدبي المباحة بالسيرة العملية منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم مما يخدش قيمتي الحق والخير؛ لهذا ألتمس من الدكتور أن لا يتوب من الفن؛ لأن التوبة لا تكون إلا من ذنب، ولا ذنب في الجمال الفني بالشرط الذي ذكرته، ولا يهمه أن يرضي جميع الناس فهذا محال؛ وإنما يهمه الصدق مع ربه، وأن يجد أثر ذلك في نفسه طمأنينة وحبَّاً لله وخشية وإشفاقاً وشوقاً وشكراً وقلقاً من مكر الله؛ لأنّ الله يمكر بمن يمكر به كقطع العهد مع الله في شيء تاب منه.. ومن تجربتي أود من الدكتور أن يجعل جزءاً من وقته لسماع القرآن من أمثال الشيخ محمد رفعت رحمه الله في الأوقات الصامتة كرياضة على سير الكهرباء، أو ترتيب كتب، أو بحث عن كتاب، أو استحمام، أو تناول وجبة.. ولو كان الدكتور يُحنِّي رأسه ولحيته لقلت: (وفي وقت الحناء)، وفي وقت الاضطجاع من الإعياء لغير نوم، وعند النوم بعد تلاوة الورد بمسجل صغير يوضع سلك سماعته في الأذن؛ فربما أخذه النوم قبل تمام الشريط.. واستغلال هذا الجهاز في لحظات صامتة أخرى كأن يكون وحده في انتظار كالمطار، ومثل ذلك أن يكون في الطائرة أو في السيارة ولم يكن معه غير السائق.. مع تلاوة القرآن مرتَّباً من سورة الحمد فسورة البقرة ولو نصف ساعة يومياً، ويسجل في مفكِّرة ما أشكل؛ ليراجعه في فراغ من كتب التفسير الراشدة؛ فإنّ لذلك لذة لا تعدلها لذة مال ولا منصب ولا بُعد صيت ولا مَيْعَة شباب.. وإن أعطى الدكتور من وقته كتابةَ مذكراته (مع ملاحظة أنه ليس كل ما يعلم يقال)، وإنهاء مؤلفات عن هموم عصره مما قد لا يعلمه غيره: فلن نفقد شيئاً من جمال فنه، بل يكون الفن على هامش علمه وثقافته؛ لأنه لا يتكلَّف جماليات الأدب؛ وإنما تبتسم له تجلِّياته في جلسة عادية.. وبهذه المناسبة أورد رسالة من صديق فيها الدلالة على مشاركتي الدكتور في همه.. قال هذا الصديق (واسمه أمانة عندي): ((من تلميذكم المحب إلى الشيخ العلامة المِفَنِّ أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري.. حفظه الله وأدام عليه ما عوَّده من الخير والعافية.. أما بعد: فإنني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله سبحانه لكم مزيداً من التوفيق والتسديد ونفع الأمة.. شيخنا ما أنا إلا تلميذ من تلاميذك الكثر، الذين أحبوك ولمَّا يروك، وقد عجبتُ من علمكم الغزير، وما حباكم الله به في إجادة الكلمة، وإرسال الحرف، والإمساك بناصية البيان، مع علمٍ غزير، وبرهان ساطع، وإحاطة بطائفةٍ من العلوم، وتطويعها فيما تكتب؛ حتى تُفجِّر لنا دلالات النصوص؛ فنرجع بخيرٍ كثيرٍ طيبٍ مبارك فيه.. شيخنا الجليل: قد مضى عليَّ حين من الدهر وأنا أتمنى أن يوفقني الله لِلُقياكم أو الكتابة إليكم، وأسأل الله أن يتم ذلك على خير.. شيخنا: حفاظاً على وقتكم الثمين؛ فإنني بادئ ذي بدءٍ أود أن أخبركم بمحبتي لكم في الله، وإنني - علم الله - أدعو لكم بظهر الغيب، وسأجمل ما أريده في أمور:

1 - ألتمس من فضيلتكم الإجازة بكتبكم ومروياتكم وإن لم أكن أهلاً لذلك، لكنني أطمع وأتوق إليه، هذا وقد قرأت أكثر كتبكم المطبوعة، سوى ما كتبتموه عن الشعر العامي.

2 - لديَّ اقتراحٌ بأن تكتبوا (سيرة ذاتية) فما في (التباريح) و (شيء من التباريح) والمنثورات وغيرها أظن أنه شيء يسير مقارنةً بما لديكم، مع تضمين هذه السيرة مراجعاتكم العلمية الطويلة أو تراجعاتكم عن بعض المسائل؛ لأنّ بعض الناس قد تعلَّق ببعض كتاباتكم وفرح بها، وأنكر تراجعكم عنها ككتاب: (النغم الذي أحببته)، ونحوه؛ فيا ليتكم تكتبون في ذلك كلاماً كافياً شافياً نصحاً للأمة، وإبراءً لله ثم للتاريخ.

3 - لديَّ بحث لطيف بعنوان : (من معجم ابن عقيل الظاهري) لم أنته منه بعد، أرجو أن أرسله إليكم إبان الانتهاء منه؛ فلعلكم ترشدونني إلى طريقة التواصل معكم.

شيخنا الكريم: الحديث ذو شجون، وأتمنى والله أن أطيل ذيل هذه الرسالة، لكن وقتكم أثمن.. أسأل الله أن يحفظكم بحفظه، ويحرسكم بعينه التي لا تنام، ويحسن لنا ولكم الختام)).

قال أبو عبدالرحمن: شكر الله للكاتب تقديره ونصحه، وأحبه الذي أحبني من أجله، وجعلني الله خيراً مما يعلمه مَن يثني عليَّ، وغفر لي ما لا يعلم.. وأما ديوان (النغم الذي أحببته) فهو سخيف فنياً، وقد أهملته في ديواني (معادلات في خرائط الأطلس) كما أَحْرَقَهُ تديُّناً وبرضاي ومشورتي أخي عبدالعزيز الشبانات جزاه الله خيراً، وسأجيب الكاتب عن رسالته إن شاء الله، وسأعدُّ له إجازة بعد قراءته عليَّ في أوائل وأثناء كتب أختارها أو يختارها هو مع مناقشة، وسأحقق طلبه إن شاء الله بأجزاء (مجموعة التباريح).. ويهمني أن أكون صادقاً مع الله وأن لا أنقض عهده؛ فذلك أمر خطير، والحيُّ لا تؤمن عليه الفتنة.. أسأل الله العفو فيما مضى، والعصمة فيما بقي، وأما ما أكتبه مستقبلاً فهو من الواجب أو المستحب أو المباح، وقد أقترف في استرسالٍ غير واعٍ شيئاً من اللمم، وعفو الله أوسع.. وأنا صريح في سياقي مذكراتي وتجارِبي في الحياة إلا ما حرَّم الله إذاعته، وليس بيدي أن يرضى الناس كلهم، بل إنّ بعض الفسقة الحُّسَّاد وهو ذو علم - بسبب تحاسد الجارات في مجالسة السلطان - أشاع عند بعض المشايخ أنني فاسق ملحد؛ فاعترضه أحد الجالسين ممن يعرفني، وخوَّفه من الله، وفوجئت بشيخ يتردَّد على أحديتي، ويتعرَّف عليَّ، ثم يدعوني عنده، ويعلن حبه لي في الله؛ فسألتُ عنه المعترض على الآفك؛ فقال: (هذا الشيخ هو الذي خوطب بالإفك؛ فتحسَّر عليَّ، ويبس ريقه مرارةً !!)، وإنّ الله سبحانه ضامن لمن صدق مع ربه تحقيق وعده الشرعي؛ إذ قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (سورة مريم 96)؛ فلا يبغضهم إلاّ من أبغض السبب الذي جعل الله به وداً.. وعندي أن من النفاق أن تهتم بغيبة بعض الناس لأمرٍ أدَّاك اجتهادك عن نزاهة وأهلية إلى إباحته؛ وذلك إذا تنازلت من أجلهم.. ثم لماذا الهجوم على القصيبي التقي مع العجز والخنوع في مواجهة من يجلدوننا بسياط الإرهاب بالتجني على كل ما هو من كياننا منذ تسلَّطت الأمم المعادية لديننا ذات العدة الحربية المروِّعة؛ فحرَّكتْ وشجَّعت كلَّ مَن في الثقوب من ذوي عداء تاريخي لكياننا من فِرَقٍ ضالة، وطائفيين، وشعوبيين، وعُشَّاق تلميع وشعبية أساسها دعوى التقدم والعصريَّة؛ فتحرك كل رويبضة ولا سيما في جهاز العربجة (الإنترنت).. لقد بدأ بالنهضة العربية - ويا لها من نهضة!! - الحديثة تيار من المثقفين غرّرَ بهم أساتذتهم من أعداء الإسلام في الغرب؛ فهاجموا دين ربهم من غير علم بالدين مع حذقٍ لأساليب مغلطائية في نصاب الفكر، وشارك الدكتور طه حسين عفا الله عنه وهو رجل صادق مع نفسه، ولكنه وقع تحت سحر أستاذه مرجليوث وغيره (مع كثرة إحسانه في تحبيب الناشئة في تراثهم الأدبي عن عمق فهم، وعلَّمهم الإيقاع الفني اللذيذ)، وقلَّدهم ذوو التلميع وعشق للشعبيَّة والوصف بالعصرية، ولكن فكرهم - مهما كثر المهرِّجون - أصبح محجوزاً في أقماع السمسم، وانبرى لهم فحول العلماء (خاصة علماء الأزهر الشريف) وفحول الأدباء كالرافعي رحمهم الله، وجوبهت الدوريات التي يقوم على أكثرها غير أبناء ملتنا، وأنتجت ما يفخر به علماء المسلمين في العصر الحديث ككتاب شيخ الإسلام مصطفى صبري عن موقف العقل.. وشارك في الإيذاء عبدالله بن علي القصيمي فكان ينفخ في رماد؛ لضحولة علمه، وإنما أعجب به شفهياً(1)، وأنس لأسلوبه كثير من الناس؛ ولكنهم لم يتبنوا أدنى شيء من فكره الإلحادي.. ولما هدأت الأمور في أرض الكنانة، واستقرَّ الفكر الخيِّر نبتت في وسط بلادنا العربية نابتة استرحلت الأدب لإيذاء أمتنا وتحطيم كياننا ديناً ولغةً وتاريخاً ورقعة، وأسقطت عزنا في سنيِّ الهجرة، واتصلت من الجاهلية رأساً بكفر (بعل) وفحيح شمال البحر الأبيض المتوسط، وشر هؤلاء (أدونيس)، وهم مِلِّيون ونِحليُّون وطائفيون، وشعوبيون، ومغرر بهم، وذوو تلميع؛ فتراجع كيدهم وبقوا في الزوايا المعتمة، ولم يتصد لهم أمثال علماءِ الكنانة، بل كان الرد من أدباء اسماً من التراثيين الذين لا يفرِّقون بين الكياني والتواصل المشروع مع الجديد.. ثم غمر بعدهم فكر مغاربي أسوأ من فيه الصادق النيهوم وأركون، ويديرهم ابن سلامة الماسوني رئيس (التثقيف الجنوبي) بباريس.. يعني المسلمين جنوب البحر الأبيض المتوسط.. وكثر فيهم ذوو التسطيح التاريخي والفكري وشرهم محمد عابد الجابري؛ فتناوله لابن رشد والفكر العربي مما يُضحك الثكلى من جهة التسطيح، ومن جهة تخلُّف الفهم الصحيح المستوعِب، ومن جهة تحكيم المعيار بصدق: صدق في التأسيس فكراً وعلماً، وصدق في الأداء.. ومن جهة البيان العربي؛ فأساليبهم مهلهلة، وبجملٍ مترجمة ترجمة حرفية لا معنوية متلعثمة البيان من غير وعي فلسفي وَفق نظرية المعرفة.. وتديَّك مبغضو الصحابة رضي الله عنهم، ومبغضو تاريخنا لثلب الصحابة كصاحب شدو الربابة، وآخر يكتب عن جناية الإمام البخاري على الحديث، وثالث يكتب عن جناية سيبويه على النحو، ورابع يتهم البطل المجاهد الصالح صلاح الدين الأيوبي بممالأة(2) الصليبيين.. وهذه كتبهم منتشرة في كل بقعة، وجمهورهم بالآلاف، وقومنا صامتون إلا عن القصيبي المسلم المتين الدين.. إنّ المؤهلين فكرياً وعلمياً وبإيقاع لذيذ قلة جداً، وهم منصرفون عن ضرورات العصر، وأما علماؤنا أحسن الله إليهم فقد نشأوا على مبدإ (مَن تمنطق تزندق)، وكانوا بحوراً في العلم الشرعي، ولكنهم لا يملكون جبروت الفكر ولذاذة الإيقاع، ولا يواجهون ما يحيط بهم ويغرقهم من فكر معادٍ متجن سريع الهزيمة إذا تصدى له من ينطلق من علم أصيل، وفكر جبَّار وفق نظرية المعرفة، وإيقاع يأخذ بتلابيب القلوب، وحصروا أنفسهم في العمل الصالح وَفقاً لما علموا، وبتدريس العلم الشرعي تلقيناً.. ولكن لا بد من وجودٍ بالقوة وبالفعل يكون ذا كفاية في مواجهة التحديات، ولو حاورهم مدرس في الإعدادي من الأقطار الأخرى لالتهمهم.

والجمال الفني أدباً بارك الله فيكم من أعظم مقوِّمات رجال العلم؛ لأنه يمنح لذة الإيقاع الجميل، ولأنه داعية حتمية للتبحُّر في علوم العصر التي يُخدم منها كياننا، ولأنه يمنح الذهن نشاطاً وشفافية؛ فيهفو للهموم الجادة، ولأنه يجعل للكاتب وُدَّاً جمالياً شفافاً، ولأنه يدفع إلى الموسوعية، وهي تخصُّص في فن أو أكثر وتثقف عريق في علوم مساعدة، ويجعل طالب العلم دائم الخدمة لما تخصَّص فيه؛ فيخدم تخصصه بأمشاج من ثقافات تكوِّن علماً جديداً هو حذق العلاقات والمفارقات.. وما وجدتُ أصالة العلم، ومتانة الفكر إلا عند العلماء الموسوعيين، ومن كان حبيس فنه فهو رجل أرشيفي لا ترمقه عين، ولا يعشقه حس جمالي، ولا يستجيب له عقل حيوي؛ فإياك إياك يا أستاذي ووالدي أن تتوب عن الجمال الفني ولعيون شانئيك القتاد والرماد !.

وقبل الفكر المغاربي المعادي لكياننا المسكوت عنه وجد في عزِّ تاريخنا من أهل النحل ومن الشعوبيين ومن زنادقتهم مخرِّبون فكرياً ودينيَّاًً، ولم يكتب الله محوَ فكرهم عن الأمة؛ لأنّ الله قضى بقضائه الكوني وخبره الشرعي أنّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.. وضمن الله للأمة وجود طائفة منصورة ظاهرة لا يضرها من خذلها إلى يوم القيامة، وقضى تدبير ربي الشرعي أن من خالف الحق ولم يكن ذا شرك عملي كالسجود لصنم، والذبح لغير الله، ولم يكن ذا شرك عملي قولي كالتعبيد لغير الله في الأسماء كعبد الرسول وعبدالحسين وإن كان كابر في تسويغ الإفك والباطل بعض علماء السوء من مبغضي الصحابة رضوان الله عليهم الذين منحوا أمتنا بتوفيق الله رقعة شاسعة ذات أقطار عربية وإسلامية، وكنا قبل ذلك لا دولة لنا ولا ممالك.. وحجته أن من معاني عبد أطاع، وهذا تضليل؛ لأنّ العبودية لله أعم تشمل الاستسلام لقضائه الكوني والشرعي، ولأنك تطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتعبد الله بهذه الطاعة، ولا تقول (أعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهكذا الحسين رضي الله عنه أحد سيدي شباب الجنة فيما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الصحيح بالنقل المتصل بالعدول، وقد قال ربنا سبحانه: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) (سورة النساء 80)، ولم يقل (ومن يعبد الرسول فقد عبد الله)؛ لفارق العموم والخصوص في معنى الكلمتين.. ولم يستبح الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كان على ما كان عليه وصحابته رضوان الله عليهم التعبيد لغير الله.. ومما يدخل في قضاء الله الذي أسلفته أن لا يكون الإنسان ذا جحد لحقائق الدين، وذا توليد لنقائضها بالأكاذيب: أن يكون له أجر ومعذرة إذا كان ذا أهلية علمية، وكان نزيه الاجتهاد عن غير هوى وحميَّة.. ووُجِد في عز إسلامنا ملحدون كابن الراوندي فلم يكن لإلحادهم أثر؛ لأنّ أهل السنّة والجماعة والمخالفين لهم باجتهاد نزيه من فرق أهل القبلة هلهلوا إلحادهم ودمغوه بالسلطان العلمي والفكري.. ووجد ملحدون بسبب فلسفة لم يهضموها على الرغم من تمذهبهم للباطنية، وكانوا ذوي علم غزير في الأدب واللغة والنحو، وكانوا عبقريين ملهمين؛ فأنس بهم الجمهور، وأفادوا من علمهم، وبقي فكرهم الإلحادي منبوذاً لا تأثير له، وتصدى لكفرهم بالسلطان العلمي علماء أجلاء، ونموذج أولئك الشكاك الذين نسجوا الإلحاد في شعرهم أبو العلاء المعري.. ومن العجيب أن يتصدى له من علماء الباطنية داعي الدعاة ابن أبي عمران برسائل حوارية ممتعة فكراً حول تحريم أبي العلاء للحيوان.. أورد ذلك ياقوت وغيره.

والدكتور غازي نفسه منافح عن كيان أمته من محاور كثيرة، وأذكر في المجال الديني كتيِّبه الرائع بغير تكلُّف (ثورة في السنّة النبوية)، وهناك كتابان للعلامة محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله ناصران له في مسألة الحجاب.. وإن كنت أطالب الدكتور بإيراد نماذج من طرق الإثبات الصحيحة التي أهملها علماء المسلمين(3)، كما أعارضه في إطلاقه إهدار الدولة الملتزمة بالإسلام (حرمة الحياة الشخصية)؛ فالتجسس فيما هو من حق الله محرم، والتجسس لأمن الأمة تنظِّمه المصالح المرسلة، واقتحام البيوت من أجل حق الله الشرعي ومن أجل الأمن لا يكون - حسبما ينبغي أن يكون - إلا بتنظيم من وليِّ الأمر بواسطة عدول إذا كان الأمر مُتيقناً أو كانت الريبة قوية الدلالة، وللاقتحام حدود لا يكون فيها ترويع طفل أو امرأة أو عجوز، ولا كشف للمحارم إلا لضرورة بواسطة نساء.. ولا يضير المقتَحَم بيته شيء إذا كان بريئاً، ولكن لا بد من الاعتذار له، وبيان المسوِّغ لاقتحام بيته، ومعاقبة المبلِّغ.. وإذا عُلم المجرم، أو أُدين شرعاً فهرب فواجب البحث عنه، وواجب التجسس عليه، وواجب محاصرته إن احتمى ببيت، وتحذيره من الاقتحام، ثم يكون الاقتحام إذا كان لا بدَّ منه؛ فإذا كان صائلاً فأحكام الصائل معروفة شرعاً، ويُغتفر فيها المفسدة الصغرى من أجل المصلحة الكبرى إذا كان ذلك ضربة لازب.

ومن عُرِف تديُّنه وبراءته من الفسق فلا يُضلَّل باجتهاد خاطئ ليس مقابله نصٌّ محكم؛ وإنما دواء ذلك الإيضاح بالتي هي أحسن، وبيان ما غاب عنه من واقعة أو نص أو برهان فكري؛ وإنما يُضلَّل إذا بان له الحق، وانقطع عن الحجة ولم يبق إلا العناد.

وكم يوجد في أهل المساجد وأهل العبادة من ينسى محاسبة نفسه قبل أن يقع في غيبة أو نميمة أو مجازفة يسميها العوام (مراجمة)، ولكنه ينجو بالتوبة، والاستغفار، وتكذيب نفسه أمام من نمَّ عليه ومن نمَّ له.. هذا إذا لم يكن مستبيحاً لذلك عقيدة.. وكتابي عن الدكتور غازي للأحدية أعد إن شاء الله بنشر شيء منه، وأختم بقصيدة فيها بث نفسي للدكتور غازي يقول فيها:

خمس وستون في أجفان إعصار

أما سئمت ارتحالاً أيها الساري

أما مللتَ من الأسفار ما هدأت

إلا وألقتك في وعثاء أسفار

أما تعبت من الأعداءِ ما برحوا

يحاورونك بالكبريت والنار

والصحبُ أين رفاق العمر هل بقيت

سوى ثمالة أيامٍ وتذكار

بلى اكتفيت وأضناني السرى وشكا

قلبي العناء ولكن تلك أقداري

أيا رفيقة دربي لولديَّ سوى عمري

لقلت فدى عينيك أعماري

أحببتني وشبابي في فتوته

وما تغيَّرتِ والأوجاع سُمَّاري

منحتني من كنوز الحُبِّ أنفَسَها

وكنتُ لولا نداكِ الجائعَ العاري

ماذا أقول وددتُ البحرَ قافيتي

والغيم محبرتي والأفق أشعاري

إن ساءلوكِ فقولي كان يعشقني

بكل ما فيه من عُنفٍ وإصرار

وكان يأوي إلى قلبي ويسكنه

وكان يحمل في أضلاعه داري

وإن مضيتُ فقولي لم يكن بطلاً

لكنه لم يقبِّل جبهة العار

وأنتِ يا بنت فجر في تنفسه

ما في الأنوثة من سحر وأسرار

ماذا تريدين مني إنني شبح

يهيم ما بين أغلال وأسوار

هذي حديقة عمري في الغروب كما

رأيت مرعى خريف جائع ضار

الطير هاجر والأغصان شاحبة

والورد أطرق يبكي عهد آذار

لا تتبعيني دعيني واقرئي كتبي

فبين أوراقها تلقاكِ أخباري

وإن مضيتُ فقولي لم يكن بطلاً

وكان يمزج أطواراً بأطوار

ويا بلاد نذرت العمر زهرته

لعزها دمتِ إني حان إبحاري

تركت بين رمال البيد أغنيتي

وعند شاطئك المسحور أسماري

إن ساءلوكِ فقولي لم أبعْ قلمي

ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري

وإن مضيتُ فقولي لم يكن بطلاً

وكان طفلي ومحبوبي وقيثاري

يا عالم الغيب ذنبي أنت تعرفه

وأنت تعلم إعلاني إسراري

وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به

عليَّ ما خدَّشته كل أوزاري

أحببتُ لقياكَ حسن الظن يشفع لي

أيُرتجى العفو إلا عند غفَّار؟ (4)

قال أبو عبدالرحمن: أهل المدينة وغيرهم من السلف يشدون المئزر للعبادة لما نزل قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (سورة الأحقاف 15).. وأنت يا دكتور عندك ما لا يحصى من خصال الخير، وأنا - وإن كنت أكبر سنّاً - وأنت: من الذين أعذر الله إليهم بسنين ممن بلغوا الستين، وإنما نحتاج إلى تتميم وإنابة، وشيء من قيام الليل ولو دقائق، وتوليد الخشية بقراءة السِّير المؤثِّرة كسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأخبار ذوي العزم من الرسل في النصوص الشرعية كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.. وكذلك الوقائع المؤثرة كواقعة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه لما تخلَّف عن تبوك.. ولا بد من صرف النصف من الوقت الذي حدَّدته للقراءة الحرة لقراءة علم وتأصيل عقلاء ومتقني علماء الإسلام من ذوي الاجتهاد كالإمام الشافعي - فما أملح كتبه - وابن جرير، وابن حزم، وابن عبدالبر، والشاطبي.. ثم ما أشرت به أول هذا الحديث عن التلاوة؛ وحينئذٍ ستنتفض هموم هذه القصيدة بحبور مريح.. وحبذا قراءة رياض الصالحين للإمام النووي مراراً، والتهام معانيه وما يُستنبط منه من كتب الشروح، وتطبيقه عملياً بالتدريج؛ فمؤلفه قصير العمر، غزير التأليف، من العلماء العباد الزهاد العاملين.. نفع الله بعلمه، وجعل لكتبه قبولاً.. ومن لم يصبر على الكبريت والنار عرضة للهزيمة الروحية، والثمالة علمها عند الله؛ فلا أحصي العدد من جماعتي أهل شقراء الذين عُمِّروا فوق مئة سنة، وأدركتُ أبا وطبانٍ عبدالله ابن جنيدل رحمه الله وعمره مئة وعشرون عاماً لم يفقد وعيه ، ومن العلماء المعمرين الجاحظ والخطيب البغدادي وابن عبدالبر وغيرهم.. وحسناً فعلتَ في هذا الإكرام لشريكة الحياة؛ فإن حياتي تتجدَّد، ويغمرني السرور كلما أكرمت أو أثنيت على آخر شريكة لي في حياتي.. وبأشد الإباء أرفض أن يكون الغيم محبرتك إلا في حالةِ أن تكون (شمعة ضياء).. ثم كيف لا يكون (بطلاً) من كان عصامياً موهوباً قلما حمل مِنَّة أحد.. وأدركتُ كثيراً من جماعتي أهل شقراء يشيخ هو وزوجته، ثم تجدهم في نجوى عن ذكريات العمر هي ألذُّ من ليلة الزواج المحبور وإن كان كل واحد في فراش وحده وقت النوم !.. وعلمتُ بالرواية وفاء جماعتي أهل شقراء لزوجاتهم، فأحدهم تموت زوجته وهو دون الكهولة فلا يتزوَّج وفاءً لزوجته وإن حمله أولاده على الزواج سوى قلة كالوجيه عبدالعزيز ابن عيسى قُتل أولاده في معارك مع الملك عبدالعزيز رحمهم الله؛ فألزمه ذووه الزواج وهو ابن تسعين عاماً؛ فتزوَّج مكرهاً، ورزق بحمد أمير ينبع رحمه الله؛ فبارك الله في ذريته وحفدته.. وما تصفو المحبة وتكون عارمة إلا إذا كان أحد الطرفين أو كلاهما شيخاً شبحاً.. ونريد منك مزيداً من الكتب النافعة جداً؛ لتقرأ المحظوظة ما يليق بموهوب يبخس حقه.. ولن يلتذ بلقاء الله ويشتاق إلى لقائه إلا من غمر الإيمان ذائقته، وأحسن الظن بربه؛ ولهذا قيل: (أقلوا من الذنوب - أو المعاصي - تخفَّ عليكم نفوسكم)، ولا يكون هذا إلا بغلبة خوف من الله مسبق، وقد نفعني الله مرات كثيرة في صغري؛ فكنت إذا اجترمتُ جرماً بادرت إلى الاستحمام، وغسيل كل ملابسي خلقها وجديدها - وصابوننا يومها الأشنان -.. مع تجديد التوبة ولا سيما إن أصابني أدنى وعكة؛ فإني أجزع جزعاً شديداً من الموت؛ خوفاً من اللحد وما بعده من الحياة الأبدية، وليس ذلك إشفاقاً من الموت ذاته؛ فلا نشب لي ولا صيت ولا ما أفرح به من أمور الدنيا.

قال أبو عبدالرحمن: وما دمتُ أبحثُ لنفسي دور التأستذ مع أمثال أستاذي القصيبي - وهو في حنين إلى التفرغ العلمي - فإنني أبدي له (وهو أعلم مني) أن للعلم ثلاثة أجنحة - ولا عجب في ذلك؛ فالله سبحانه جعل الملائكة عليهم السلام أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع -.. الجناح الأول النصُّ من دين أو لغة أو تاريخ أو أدب أو قانون.. إلخ، والجناح الثاني لغة النص من عربية أو أعجمية عن خبرة وتذوُّق، والجناح الثالث الفكر وَفْق نظرية المعرفة.. وكل ذلك بشرط الأخْذِ بالظاهر، وليس الظاهر بمعنى المقابل للواضح النقيض للخفي؛ وإنما هو ما يظهر من دلالة النص ولو بخفاء بعد مشقة بيقين وقطع، وأما الكلام المركَّب فيُشترط في دلالته اليقين أو الرجحان، وهكذا ما يظهر من دلالة الفكر بيقين أو رجحان.. والرجحان على أصح الوجوه مقتضٍ العلمَ والعملَ معاً ما ظلَّ الرجحان قائماً؛ لأن عِلْم البشر من المشهود والمغيَّب أكثر، وقد تغيب واقعة أو حجة من المشهود عن أحدِّ الناس لمَّاحية، ويُحظى بحضورها من هو دونه.. وخير ما نفقه به لغتنا العربية مقاييس اللغة لابن فارس، والمفردات للراغب، وأساس البلاغة للزمخشري، وديوان الأدب للفارابي للعلم بمعاني الصيغ، وكتابا في حروف المعاني، والنحو الوافي، والنحو الثاني ويكفي في النحو الثاني (البلاغة) كتابا عبدالقاهر، وفي البديع كتاب ابن معصوم.. وخير ما نتوسَّع به التهذيب للأزهري، ثم تاج العروس للزبيدي.. وكثير من كتاب العين المنسوب إلى الخليل بن أحمد وهو لتلميذه رحمهم الله لا يعتمد عليه، وهكذا شيء في الجمهرة لابن دريد رحمه الله ولا سيما في التصريف.. أقول قولي هذا (5) وأستغفر الله لي ولكم.

وكتبه لكم:

أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

عفا الله عنه

الهوامش:

(1) الشفوية جائزة بضعف ، والشفهية أصحُّ وأرجح.

(2) الممالأة تستعمل للاجتماع والتواطؤ على شرٍّ، والأصل - كما قال الراغب - اجتماع الجماعة على رأي؛ فيملؤون العيون رِواءً، والنفوس بهاء وجلالاً .

(3) انظر ص 29 ـ 30 .

(4) جريدة الندوة العدد 14174 في 5-5- 1426هـ ص 15 .

(5) قال أبو عبدالرحمن: بعض خطباء الجمعة إذا ختم بآية كريمة قال: (أقول ما تسمعون)، وهو تنطُّع، بل يقول: (قولي)، وليس المراد بقوله الآية، بل كلامه كله في خطبته، وما فيها من نصوص شرعية فهو قائل بها.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد