Al Jazirah NewsPaper Monday  11/05/2009 G Issue 13374
الأثنين 16 جمادى الأول 1430   العدد  13374

العاقل يعتبر
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

في التأمل فيما حدث، ويحدث؛ ماضياً وحاضراً، يمكن استلهام دروس مفيدة. وفي كل زمن وآن من الحوادث ما فيه عبرة لذوي الأفهام من بني الإنسان. في السنوات الأخيرة تسارعت الانطلاقات العلمية - وما زالت تتسارع - في مجالات مختلفة بينها -

-أو في طليعتها - الانفجار المعرفي والتقني في ميدان الاتصالات والمعلوماتية.

وكل ذي بصيرة نافذة، وعقل سليم، يدرك أن كل ما أنجزه، وينجزه، الإنسان من فتوحات علمية توفيق ممن خلق الأرض والسماوات العلا، وجعل هذا الإنسان خليفته في الأرض يتدبَّر في آفاقها، فيعمرها، وكرَّمه بما رزقه من عقل طموحاته العلمية لا قيد لها ولا حد. وكنت قد أشرت إلى شيء من هذا الأمر في أبيات قدَّمت فائزين بجائزة الملك فيصل العالمية في مجال الطب قبل ثمانية أعوام؛ قائلاً:

كذلك فليهنأ بما أُنجِز المجد

فما لطموح العلم قيد ولا حدُّ

يجدب المدى من كرَّم الله بالنهى

ويعبره والملهم الصمد الفرد

يحثُّ خُطى كانت تُجرُّ وئيدة

فاضحت إلى أهدافها حرَّة تعدو

وفي كفِّه سيف من العزم صارم

أبى في سراه أن يكون له غمد

وما ضاع تفكير لذي همة سُدى

ولا خاب سعي زاده البحث والجِد

وصار خبير الطب يُبدل مهجة

بأخرى فتنداح البشائر والسعد

أجل:

لقد تحققت إنجازات عظيمة رائدة للإنسان على الأرض؛ علمياً وتقنياً. لكن هل تحقَّقت له إنجازات مثل هذه الإنجازات؛ عظمة وريادة، في مجالي الأخلاق والسلوك؟ خلال المئة عام الماضية أقدم هذا الإنسان على خوض حروب كارثية لم يشهد لها أسلافه مثيلاً أو قريباً من المثيل. وكل هذه الحروب لم ترتكب - بكل ما اصطبغت به من جرائم - إلا بدوافع لا يخطر ببال عاقل أنها نبيلة الأخلاق مستقيمة السلوك. وخلال هذه المئة عام تدخل الإنسان في الطبيعة تدخلاً في بعضه تطوير نافع بلا شك، وفي أكثره تدمير مهلك بلا ريب، ومن هذا التدمير القضاء على مساحات شاسعة من الغابات، وتلويث البيئة بمختلف أنواع التلُّوث. وقد يقول قائل: إن كل الدول تشترك في ارتكاب التدمير المادي للأرض. وهذا صحيح إلى درجة معيَّنة. لكن كل متأمل يدرك أن الدول المتقدِّمة؛ علماً وتقانة، الأقوى؛ سياسة واقتصاداً، هي التي لها الدور الأكبر في ارتكاب ذلك التدمير.

على أن هناك تدميراً لا يقل خطراً وفداحة عن التدمير المادي للأرض؛ وهو التدمير الأخلاقي السلوكي للمجتمعات. فخلال تلك المئة عام الماضية توالى انهيار الأخلاق والسلوك - وإن ادعى من ادعى أن ما حدث تطور وتنوير - في مجتمعات يعتنق أكثرها ديانات سماوية يفترض أن يكون اتباعها متمسكين بمبادئها منفذين لتعاليمها. ومن ملامح ذلك أن انتشر فساد في الذمم غير مسبوق، وإباحة فاحشية لم يعهد لها نظير من قبل. بل وصل الشذوذ الإباحي إلى درجة أن أصبح زواج المثليين قانونياً مهما كان ضيق نطاق ممارسته.

وفي خلال المئة عام الماضية، أيضاً، حلت بالبشرية أمراض فتاكة وأوبئة مهلكة؛ اختلفت أسماؤها باختلاف أسبابها ودرجات فتكها وإهلاكها. ومن الناس - وربما كثير من الناس - لم تدر في أذهانهم أن يتلَّمسوا ما إذا كانت هناك أي علاقة بين حدوث تلك الأمراض والأوبئة وبين عدم التزام الإنسان بما أمره خالقه أن يلتزم به، أو - أحياناً - بما يقول: إنه ملتزم به. من المعلوم أن الله قد يبتلي المؤمنين به امتحاناً لهم، لكنه قد ينزل بأسه على المخالفين لأمره عقاباً لهم. ولذلك فإن المصائب قد تصيب الجميع وإن اختلفت الأسباب.

في هذه الأيام تتناقل وسائل الإعلام المختلفة أخبار إنفلونزا الخنازير المرعبة، التي توشك - وفق ما تقوله بعض هذه الوسائل الإعلامية - أن تصبح وباء عالمياً. وقبل هذه الإنفلونزا بزمن لم يكن بعيداً انشغلت الدول والأفراد بإنفلونزا الدجاج. وكان وما زال العالم مشغولاً ومهموماً بمرض الإيدز. وما فتئت أصداء ما حلَّ بالناس عام 1337هـ من وباء أهلك الكثيرين في مشارق الأرض ومغاربها. ولأن عقيدة الإيمان راسخة في قلوب أهل هذا الوطن، الذين لم يشهدوا وباء مثل ذلك الوباء، سمَّوا تلك السنة سنة الرحمة؛ تفاؤلاً بأن الله سيرحم من قضوا نحبهم فيها، ومن تجرَّعوا غصص الحزن على من فقدوهم. ولكثرة الموتى في بلدة كاتب هذه السطور، عنيزة، حث قاضيها صالح بن عثمان القاضي، رحمه الله، الناس على أن يصلوا على موتاهم في مساجدهم بدلاً من إحضارها كلها في المسجد الجامع دفعة واحدة لأن في رؤيتها مجتمعة رعباً للحاضرين. وكان جدِّي، محمد بن سليمان، أحد من انتقلوا إلى رحمة الله في ذلك الوباء. وكان في طليعة أعيان الدولة، الذين نكب بفقدهم مؤسسها، الملك عبدالعزيز -رحم الله الجميع- ابنه تركي الأول الفارس المسدِّد، وابنه فهد الأول.

ومن حسن حظ كاتب هذه السطور أن صلى يوم الجمعة قبل الماضية في مسجد الملاح بعنيزة، فاستمع إلى خطبتها، التي ألقاها الشيخ عبدالرحمن الدهش، زاده الله توفيقاً وسداداً، وأجزل له المثوبة والأجر. وقد أحسن كل الإحسان في الربط بين حدوث تلك الأمراض والأوبئة وبين ما حدث للإنسان، ومن الإنسان، من انحرافات؛ مشيراً إلى ما ورد في كتاب الله الكريم وسنة نبيه المصطفى، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وسلم، من كون ظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وكون شيوع الفاحشة من أقوى أسباب حلول النكبات والمصائب بين خلق الله.

رزق الله الجميع عقولاً يعتبرون بها وجنَّبهم ما يسخط الله ويغضبه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد