Al Jazirah NewsPaper Thursday  21/05/2009 G Issue 13384
الخميس 26 جمادى الأول 1430   العدد  13384
الأمن الفكري ومؤسسات الضبط الاجتماعي - الأسرة أنموذجاً
د. عبدالوهاب بن منصور الشقحاء

 

تشير المصادر اللغوية إلى أن كلمة الأمن تقابل مفردة أخرى هي الخوف، ولذلك فإن الأمن يعني إقصاء الخوف والقلق وتوفير السلامة والطمأنية وقد ورد لفظ الأمن في القرآن الكريم في مواضع متعددة وفي معان تشير إلى الإيمان والاطمئنان والوثوق وعدم الخوف.

وإلى هذا المعنى ذهب بعض الباحثين في تفسيرهم لمعنى الأمن اصطلاحاً فالأستاذ (ماننج) يرى أن الأمن هو (غياب الخوف والقلق، فهو شعور موضوعي بالثقة) ويؤكد (كوفمان) هذا المضمون في قوله (إن أغلب وجهات النظر حول المفهوم تلتقي في جوهرها عند قاسم مشترك هو إدراكها أن الأمن إن دل على شيء فإنه يدل على التحرر من الخوف). والأمن والخوف مفهومان نسبيان متضادان يتاثر كل منهما بعدد من العوامل أو المتغيرات الذاتية والموضوعية التي تعمل على زيادة مساحة أحداهما أو تقليصها، لذا يمكن القول بأنه ليس هناك أمن مطلق، كما إن الخوف يصبح خوفاً من الخوف نفسه في كثير من الأحيان، وكما إن للأمن وظائف فردية واجتماعية، فإن للخوف وظائفه أيضا ومنها أن الخوف أداة لعقلنة السلوك البشري وكبح نوازع الشر في الإنسان، وبحسب نظرية العالم (هويز) فإن السلام والأمن والطمأنينة تتوفر فقط في المجتمعات التي توجد فيها حكومة، وإن أساس الطاعة هو الخوف والرهبة، وهكذا ذهب (روسو) في نظرية العقد حين قال: (إن حياة المجتمع ليست في فطرة الإنسان وإنما اضطر إليها بحكم حاجته إلى الاستقرار وإلى تبادل المنافع) والأمن على مستويات ومظاهر متنوعة، فهناك أمن للفرد، وأمن للجماعة، وأمن للدولة، وهناك أمن غذائي، وأمن اقتصادي، وأمن سياسي، وأمن اجتماعي، ثم هناك أمن مادي وأمن اعتباري، وأمن فكري واختلفت التعريفات لمصطلح الأمن الفكري حسب توجهات الثقافات والعقائد التي تتبعها الدول والشعوب فقد عرف الأمن الفكري بأنه: (النشاط والتدابير المشتركة بين الدولة والمجتمع لتجنيب الأفراد والجماعات شوائب عقدية أو فكرية أو نفسية تكون سبباً في انحراف السلوك والأفكار والأخلاق عن جادة الصواب أو سبباً للإيقاع في المهالك).

كما عُرِّف بأنه: (حماية فكر المجتمع وعقائده من أن ينالها عدو أن أو ينهزل بها أذى لأن من شأن ذلك أن يقضي على ما لدى الناس من شعور بالهدوء والطمأنينة والاستقرار وتهديد حياة المجتمع) وعلى هذا فإن تعريف الأمن الفكري للأمة الإسلامية هو: (أن يعيش المسلمون في بلادهم آمنين على مكونات أصالتهم وثقافتهم النوعية ومنظومتهم الفكرية المنبثقة من الكتاب والسنة) ويرتبط الأمن الفكري بالأمن الاجتماعي ارتباطاً وثيقاً، ففي كل حضارة وكل تنظيم اجتماعي لابد أن تظهر مجموعة من التوترات الداخلية والانحرافات السلوكية لأسباب متعددة منها تعداد المعايير والقيم الضابطة للسلوك، وفشل النظام الاجتماعي في السيطرة على تلك الانحرافات والتعامل معها وإيجاد السبل الكفيلة بحفظ التوازن من خلال تفعيل آليات الضبط الاجتماعي يدلل على عجز النسق الاجتماعي عن أداء وظائفه وتحقيق متطلباته الوظيفية التي تربطه بالأنساق الاجتماعية الأخرى فتسود حالة من التفكك الاجتماعي في النظام كله، كما أن انفجار التوترات الداخلية يدل على وجود خلل في النظام الاجتماعي وفشل في عمليات الضبط الاجتماعي وعدم فعاليتها في تدعيم عناصر البناء الاجتماعي وربطها، وعدم كفاءة موجهاته الأساسية في تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع ومؤسساته التنظيمية الأمر الذي يسبب اختلال في تحديد المراكز والأدوار الاجتماعية للأفراد وأدوارها المترابطة على أن أخطر المشكلات التي تصاحب التفكك الاجتماعي هي ظهور مشكلة الخلل في الأمن الفكري وظهور الخلل في الأمن الفكري يعني أن القيم الاجتماعية قد فقدت قدرتها على ضبط سلوك الأفراد والجماعات، وفشل النظام الاجتماعي في تحديد مراكز الأفراد وأدوارهم المتبادلة بشكل يؤدي إلى بلوغهم أهدافهم بصورة مرضية، وأهم الحلول في نظر علماء الاجتماع هي في تفعيل وسائل الضبط الاجتماعي للتعامل مع حالة الخلل في الأمن الفكري ويتمثل ذلك في اتجاهين، أولهما يرى تحقيق ذلك من خلال (توسيع نطاق النظام وتمتين قواعده بحيث يكون صالحاً لمواجهة أي انحراف مهما صغر في المجتمع رعاية للنظام) والاتجاه الثاني: يرى (أن الجماعة كلما كانت محببة للفرد ازدادت فاعلية وسائل الضبط الاجتماعي في رد الفرد إلى طريق الجماعة) ولعل الجمع بين الاتجاهين ممكن. فالجماعة في وجهة نظر علم الاجتماع هي (الوحدة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد وتؤثر في سلوكياته وأخلاقيته تأثيراً كبيراً) والأمن الفكري مهمة داخلية في المقام الأول، وأي عوامل أو قوى خارجية تعمل على تقويض الأمن الفكري الداخلي وتصعيده لا تتعدى كونها عوامل ثانوية أو مساعدة تعمل على استثارة عوامل عدم الاستقرار الداخلي وصولاً إلى عرقلة أمنه الفكري المنضبط مع مبادئه وقيمه التي يؤمن بها، ولبناء مجتمع آمناً فكرياً مطمئناً، لابد من أن تقوم مؤسسات المجتمع المدني بالدور المناط بها المتمثل في تفعيل مؤسسات الضبط الاجتماعي، وقد عرّف كل من (راوسك) و(راين) الضبط الاجتماعي بأنه (جميع العمليات التي بواسطتها يستطيع المجتمع وكافة المجموعات المكونة له التأثير في سلوك الأفراد الذين هم أعضاء فيه بحيث يكون ذلك السلوك متطابقاً مع قواعد تلك المجموعات) كما عرف (لندز) الضبط الاجتماعي بأنه (يشير إلى العمليات المخططة أو غير المخططة والتي بواسطتها يستطيع المجتمع أن يجعل الناس يخضعون للقواعد الجماعية) أما (نيرنر) فقد أكد على أن الضبط هو: (ذلك النشاط المعاكس لتلك العمليات التي تؤدي إلى الانحراف ومخالفة القواعد الاجتماعية والتي تدعم النظام القائم وتعيد المنحرفين إلى السلوك المنسجم مع القواعد الموضوعة أو تعزلهم أو تقلل من حالات التمرد ضد المجتمع وتخفف من حالات الصراع الاجتماعي). والنظرة التقليدية إلى مؤسسات الضبط الاجتماعي في المجتمع المدني ذات شقين الأولى ما يسمى (الاتجاه السلبي) وترى أن الضبط الاجتماعي عبارة عن (وسائل وأساليب الخوف والضبط والإكراه مسلطة على الفرد من الخارج أي من قوى المجتمع وعلى الفرد أن يطيعها خوفاً منها) والثانية ما يمثله (الاتجاه الإيجابي) فهو ينظر إلى الضبط الاجتماعي على أنه (ظاهرة اجتماعية مكونة من قواعد اجتماعية تنمو تدريجياً في البيئة الاجتماعية الحضارية وعلى وفق الحاجات الاجتماعية) ومن خلال (التفاعل الاجتماعي) تتبلور وتصبح قواعد ملزمة يرتضيها الجميع ويلتزمون بها وإن قسماً كبيراً من هذه القواعد تصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصيات الأفراد نتيجة للتنشئة الأسرية والاجتماعية فيطبقونها لا شعورياً ويرغبون بتطبيقها رغبة شديدة، وأكدت النظم الاجتماعية على أهمية الأسرة وموقعها في المجتمع بوصفها الخلية الأساسية في بناء المجتمع، فالأسر هي الوحدات الاجتماعية التي يتم فيها تجمع أفراد المجتمع على شكل جماعات أولية وكل جماعة منها هي جماعة اجتماعية اقتصادية تتميز بالتعاون والعطف وتوفر السكن والاستقرار والحماية كما أن الأسرة هي (صلة الارتباط) ما بين الفرد والمجتمع، فهي التي تؤسس رابطة العضوية ما بين أبنائها ومجتمعهم، والأسرة هي المجتمع ذاته ولكن بشكل مصغر حيث إنها تعكس عاداته وتقاليده وقيمه وهي تحول الفرد الذي هو في طفولته مجرد كائن مادي إلى شخص يكتسب الشخصية الاجتماعية وذلك بعد أن تعلمه أسس وأساليب السلوك ومن هنا نستطيع أن ندرك أن الخلل الذي يصيب كيان الأسرة، أو الذي يصيب العلاقة ما بين الأسرة والمجتمع له انعكاساته الخطيرة على الأمن الفكري ولذلك فإن التنشئة الأسرية هي (تلك العملية التي يكتسب الطفل عن طريقها السلوك والعادات والعقائد والمعايير والدوافع الاجتماعية التي تقيمها أسرته والفئة الثقافية التي تنتمي إليها). ولقد أكد (بوجاردس) على دور الأسرة في الضبط عند تحديده لخصائصها فهي بالنسبة إليه (جماعة صغيرة تتكون من الأب والأم وواحد أو أكثر من الأبناء يتبادلون العاطفة ويشتركون في المسؤولية وهي تقوم بتربية الأطفال لكي تقوم بتوجيههم وضبطهم ليصبحوا أشخاصاً يتصرفون بطريقة اجتماعية) على أن أهم مهام الأسرة التي تنميها بالفرد ما يلي:

1 - العضوية: يتعلم الفرد داخل الأسرة فكرة العضوية التي تعد أساساً تقبل الضبط، حيث إن الفرد إذا تعلم فكرة العضوية في داخل الأسرة سهل عليه تقبل فكرة العضوية في المجتمع الأوسع بعد ذلك وما يترتب على هذه العضوية من التزامات تجاه ضوابط المجتمع.

2 - التعاون: كذلك فإن الفرد في داخل الأسرة يتعلم فكرة التعاون حيث إنه يجد نفسه يعيش في أسرته يتعاون فيها الأب والأم والأبناء على توفير أسباب المعيشة وإدارة شؤون الأسرة والمحافظة على سلامتها وسعادتها.

3 - رموز الضبط: وهي العناصر الأساسية في تعلم الضبط والتي تقوم الأسرة بمهمة تعليمها للطفل كالإشارات التي تعبر عن وجوب الامتناع عن عمل من الأعمال أو نوع من التصرف، والإشارات التي تدل على التهديد بإنزال العقاب والكلمات والأصوات التي تحمل معنى المنع أو اللوم أو التشجيع.

4 - أساليب الضبط: إن الطفل يتعلم في الأسرة ولأول مرة أن هناك أسلوبين يواجه بهما بحسب مواقفه من القواعد وأساليب السلوك التي يفترض فيه تطبيقها وطاعتها، فهو إن خالفها فسوف يواجه بالعقوبة وإن أطاعها فسوف يواجه بالاستحسان والتشجيع والمكافأة فهو يتعلم في الأسرة على هذا الأساس أسلوبي الضبط الإيجابي والضبط السلبي.

5 - المعتقد والتقاليد: الأسرة هي المدرسة الأولى التي يتلقى فيها الفرد قواعد المعتقد الذي يؤمن به مجتمعه، دينياً كان أم سياسياً وما يحتوي عليه هذا المعتقد من نواة وأوامر وقواعد خلقية وشروط للسلوك، وكما تُعَلِّم العائلة الطفل المعتقد فإنها تعلمه تقاليد المجتمع وأعرافه وما يتوقعه المجتمع من السلوك من قبل الفرد وعلى هذا فالأسرة بوصفها وسيلة ضبط مسؤولة أمام المجتمع وبوصفها أيضا وسيطاً ما بنيه وبين أبنائه الذي يأتون إلى الحياة، فهي وسيط اجتماعي يقوم بنقل التراث الاجتماعي وضوابطه إلى الأبناء ويقوم بإيجاد الصلة ما بين الأبناء والمجتمع كما أنها مسؤولة في بعض الأحيان أمام المجتمع عن تحدي أبنائها للضوابط الاجتماعية، فالأسرة تقوم بنقل المعتقد والتقاليد إلى أبنائها وفي بعض المجتمعات تتعرض الأسرة إلى العقوبة إذا ما لقنت أبنائها بعض التعاليم التي تخالف المعتقد السياسي، للدولة أمام من حيث خلق الصلة ما بين الفرد والمجتمع، فعلى عاتق الأسرة تقع مسؤولية تعريف الأبناء على مؤسسات المجتمع وضمان العضوية لهم في هذه المؤسسات كالمدرسة والمؤسسة الدينية، كذلك تعد الأسرة مقصرة بحق المجتمع إذا ارتكب أبناؤها بعض المخالفات كالاعتداء أو تخريب المؤسسات العامة، كذلك تعد الأسرة مسؤولة أدبياً عن التستر على أبنائها في حالة ارتكابهم الجرائم، وفي بعض المجتمعات تعمد الأسرة إلى أخبار السلطات عن مخالفات أبنائها، ولقد جرى العرف في كثير من المجتمعات على أن يوجه اللوم إلى الأسرة في حالة اعتداء أبنائها على الآخرين، وبناءً على هذا فإننا نستطيع أن ندرك طبيعة الآثار المترتبة على الخلل الذي يصيب بناء الأسرة ووظائفها في مجال الضبط الاجتماعي وانعكاس ذلك على الأمن الفكري. إذ إن للأسرة وظائف اعتيادية متخصصة ولكن تكون حياة الأسرة حياة طبيعية وتكون انعكاساتها سليمة على حياة أفرادها وأبنائها يجب أن تنجز وظائفها بشكل ناجح ولكن تنكأها أو فشلها في أداء مهماتها من شأنه أن يؤدي إلى انعكاسات سلبية على سلوك أبنائها وعلاقتهم بالمجتمع مما له أثاره الخطيرة على الأمن الفكري، ولكي تكون الأسرة ناجحة بالقيام بدورها في تحقيق الأمن الفكري يجب عليها ن تؤدي المهمات الآتية:

1 - أن تقوم بمهماتها التربوية بشكل كامل وسليم وأن تعتبر نفسها مسؤولة كاملة عن تربية أبنائها بالرغم من وجود المدارس وتشعر أن التربية هي قضية متكاملة وهي ليست قضية إطعام الأبناء فقط وإنما يجب تعليمهم قواعد المجتمع وقيمه وأن يتعلموا السلوك والخلق القويم المستمد من الدين كما يجب عليها أن تعلمهم أن عليهم واجبات مثلما أن لهم حقوق في المجتمع.

2 - أن تعلم الأسرة أنه يجب أن يكون هناك تنسيق وتكامل بينها وبين المدرسة في مجال العملية التربوية من خلال التواصل فيما بينهما لمتابعة أبنائها في الدراسة وما يعترضهم من مشاكل دراسية أو نفسية.

3 - أن على الأسرة أن تفهم أن المجتمع يمر بمرحلة التحول التي هي آخذة طريقها منذ زمن وهذه المرحلة تنطوي على نقله من المجتمع التقليدي إلى المجتمع شبه الحديث وعلى هذا فالدولة تستخدم نوعين من المعايير، وهي المعايير التقليدية، والمعايير الحديثة ولابد أن يكون هناك صراع بين القيم وصراع ما بين جيلين وهنا تكمن الخطورة فهناك من الآباء من يقف موقف المتزمت وبعضهم يرى أن يترك الأبناء يندفعون وراء كل ما هو جديد بصفة أن هذا هو تيار الحياة.

4 - أن تقف الأسرة موقفاً مع السلطة والنظام بما يخدم المصلحة العامة وذلك لتنفيذ التعليمات الصادرة إليها والتعليمات العامة وتعليم أبنائها ضرورة الالتزام بالتعليمات والأنظمة الصادرة من الدولة.

5 - أن تفهم الأسرة أن من أعظم واجباتها هم تحصين أبنائها فكرياً وخلقياً ضد الانحراف الخلقي والقيم والاتجاه نحو الجريمة أو مخالفة النظام.

6 - أن تقوم الأسرة بتحقيق الحصانة الوطنية لأبنائها وذلك بان تغرس فيهم حب الوطن والحرص والأمانة فيما يتعلق بالقيام بالواجب وممتلكات الدولة وأسراراها وعدم الانخداع بالإشاعات والدعايات التي يبثها الأعداء في الداخل أو الدول المعادية والطامعة في الخارج وعدم التهاون مع أية فئة خطرة أو مخربة في الداخل.



dr-a-shagha@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد