Al Jazirah NewsPaper Friday  22/05/2009 G Issue 13385
الجمعة 27 جمادى الأول 1430   العدد  13385
مركاز
سلوك هؤلاء النّاس..!
حسين علي حسين

 

لماذا يربط بعض الناس الزهد بالعبقرية؟.. هذا سؤال لم أجد له جواباً مباشراً من أحد، لا دخل في ذلك بطلب رضى الله دون رضى خلقه، فالله وحده يعرف من يجازي ومن يعاقب، للناس الظواهر والملاحظة والكلام، الكثير من الكلام. لكنني أحتفظ من خلال المعايشة والمشاهد والقراءة للعديد من النماذج. هناك شخص هامشي في كل شيء، في ملبسه وكلامه وهندامه. هذا الرجل كان يجلس ولأوقات طويلة يعطي دروساً في مادة الحساب، وكان الطلبة يقصدونه من كافة المدارس، فيعطي كل طالب طلبته مجاناً، هذا الرجل كان قليل الكلام، بل إن هناك العديد من الناس كانوا يشاهدونه في الأسواق ماشياً يتحدث مع نفسه أحياناً بهدوء وأحياناً بغضب، لكنه عندما يجلس إلى الدرس كان بحراً في تخصصه، لا أحد لديه علم عن مستواه الدراسي، أو المادي أو العقلي -خارج مادة الحساب- وعندي علم برجل يجلس بالساعات ليرقي المرضى ويكتب لهم الأحجبة، وإذا خلى له الوقت لا ينقطع عن الصلوات والاستغفار وكان معاشه من دكان صغيرة يبيع فيها السكر والشاي وكافة الأرزاق، وقد قيل إن العديد من زبائنه يأخذون ما يحتاجون إليه من المواد الغذائية مجاناً!.

وفي المدرسة التي أخذت فيها بعض العلم، كان هناك من يعطينا دروساً في اللغة الفرنسية. كان صارماً وحاداً حالماً يبدأ الدرس. لم يكن درسه يستغرق سوى نصف المدة المخصصة، بعد ذلك يقلب الفصل رأساً على عقب، نكت ومقالب، لكن أحداً لم يكن يجرؤ على تعدي حدوده معه، هذا المدرس لم يكن يلبس العقال، كان يضع الغترة البيضاء على كتفه، وقد قيل إنه لا يحمل إجازة في اللغة التي كان يدرسها، وإن كان الجميع يثنون على أدائه في الفصل وفي تصحيح المادة، هذا معلم من أعجب المعلمين الذين درست عليهم، عنده للجد وقت وللهزل وقت، لا أنصاف حلول أبداً!.

أما إذا تركنا العلم إلى الإبداع، فإنني أذكر بكثير من الحيرة ذلك المبدع المحلق، الذي قابلته أو سعيت إلى مقابلته إعجاباً بأدبه وبمواقفه وعزة نفسه، لكنني في الليلة الأولى مسحت كل ما فيه البال عنه، وأبقيت على موهبته المحلقة بعيداً من ذلك الوقت إلى ما شاء ربنا. جلسنا في مطعم فخم، حدد المكان، حدد الطلبات من المأكل والمشرب حتى ضاقت الطاولة بما عليها، أكلنا وشربنا وضحكنا، ثم في آخر السهرة جاءت الفاتورة ودون أن ينظر فيها أحالها إليّ دفعت الحساب مكرهاً ومتعجباً، وخرجنا في جولة عامة على رجلينا، فوجدت أن هذا المحلق في ربى الإبداع، لا يختلف كثيراً عن الهامشيين الذين ينامون في المقاهي وتحت الأرصفة، شتائم مقرعة للجميع، حتى إن أكثر من كاتب وأديب كانوا يتحاشون الالتقاء معه وجهاً لوجه، خوفاً من لسانه! وقد اقتنعت أن لي من العالم علمه وليس فعله، فارتحت بذلك للعديد من الأدباء والفنانين والعلماء، الذين تناقض أفعالهم أعمالهم!

وسوف أختم كما بدأت بمبدع روسيا القيصرية (تولستوي) مؤلف الحرب والسلام، فقد قضى آخر عمره مع الفقراء والمحتاجين، مقدماً لهم ثروته واسمه وجاهه، وفي الجهة المقابلة كانت زوجته سليطة اللسان واليد، حتى آمن في النهاية بأن الشيطان امرأة، وإن البقاء ليس للأرض والمال والجاه، لكن للإبداع الحار المتوهج، وللقرب من بسطاء الناس ومهمشيهم.. من يذكر الآن زوجة سقراط أو تولستوي؟.. ومن لا يذكر حتى الآن هذين العلمين في العلم والأدب!.

فاكس: 012054137



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد