Al Jazirah NewsPaper Saturday  06/06/2009 G Issue 13400
السبت 13 جمادىالآخرة 1430   العدد  13400
أضواء على المرض والصحة: الوسواس القهري
د. عبد المحسن بن عبد الله التويجري

 

النفس البشرية خلقت وفي وظيفتها تداخل وتلازم مع كل الانفعالات والمتغيرات العقلية يتأثر كل منهم بالآخر ويؤثر فيه، وتشترك الغدد الصماء في مجال عملهما من خلال الإفرازات الكيميائية، وحينما يحدث خلل وظيفي فقد يهيئ هذا إلى شيء من الاضطراب النفسي. والاضطراب النفسي

يصنف على أنه في دائرة العصاب، ومثال ذلك الكآبة، أما الاضطراب العقلي فيدخل في تصنيف الذهان والعصاب أو الذهان متباعدان ومختلفان في المصدر والأثر.

ووفق ما سبق فإن العصاب في جميع أعراضه في دائرة النفس كالقلق الشديد أو الوسواس القهري، وكذلك بعض الاضطرابات العقلية كالفصام الذي يدخل في دائرة الذهان، وكما سبق أن الذهان والعصاب وإن ارتبطا وظيفيا فإنهما مختلفان في الأثر والنتيجة والمكان.

وفيما يتعلق بالوسواس القهري يحسن بنا أن نهتدي بقول الحق عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاسِ}، ومعروف أن الخناس هو الشيء الذي لا يُرى.

والوسواس القهري يفرض نفسه على المريض من خلال تسلط فكرة معينة عليه بدون وعي منه، وتستمر تلحّ وتتكرر دون رغبة منه ولا قدرة له على مقاومتها، وقد تكون فكرة صائبة جيدة، أو أنها سخيفة لا معنى لها. يتم ذلك في مجال الوسواس القهري ومجاله العقل، أما في المجال الوجداني فيتبين من خلال نتائجه كالإحساس بالخوف من لا شيء، أو القلق الشديد حيث يتكرر الإحساس به ويتسلط على المريض بتواتر يُلح بالخوف، أو ما هو خوف لا تجسده صورة لها مبرر.

وليس المهم محتوى الفكرة إن كانت صائبة أو سخيفة، فالمهم تسلطها وترددها على الإنسان بلا مبرر، ولهذا أمثلة عدة منها أن تتسلط على الإنسان فكرة تتعلق بنظافة يده، فكلما نظفها عاود ذلك مرات ومرات فيفعل ويكرر ذلك حيث عجزه عن مقاومة إلحاح الفكرة.

وكذلك أن تلح عليه بتسلط يعجز عن مقاومته فكرة تدعوه لعمل معين، ولكن بإلحاح نحو أدائه مرات عدة نتيجة لتسلط هذه الفكرة، ومن إيجابيات حالة الوسواس أنه يعين على الإتقان والإنجاز الجيد في حالة أن يكون الوسواس بحده الأدنى، كما أن الفكرة التي تتسلط عليه قد لا تكون ذات معنى أو سبب، ومثال ذلك أن يحكم إقفال خزانته وبعد أن يتأكد من ذلك ويطمئن يعاود التأكد من إقفالها بتكرار مزعج على الرغم من أنها أقفلت بإحكام.

ومثال آخر من واقع حالة كتب عنها طبيب استشاري في الأمراض النفسية، حيث يذكر أن مريضاً راجع عيادته وقابله وهو بعقل سليم ووعي تام، وكان يشكو من تسلط فكرة معينة تمثلت في ربط إصبعيه بإحكام في يجده التي تعوّد استخدامها في لكتابة، فجاء له وقد أحكم الرباط على الإبهام والسبابة وهما اللذان يحملان القلم حين الكتابة، والسبب أنه حين يمسك بالقلم يشرع في كتابة ما يسيء إلى مقدساته بالشتائم والاستهزاء على الرغم من علمه بقدسيتها، وحرصه عليها وبتسلط هذه الفكرة لم يجد مناصا من ربط إصبعيه بإحكام، وواضح انه أمر ليس بإرادته ويكره فعله، ولكن تسلط وإلحاح الفكرة إلى عمل ما يكره، وهذا وسواس قهري في مجال الأفكار.

أما في المجال الوجداني فقد يكون الوسواس القهري على هيئة شك أو سوء ظن لا معنى له، ولا وجود لأسبابه، فمثلا أن يكرر بشكل ملفت الالتفاف إلى الخلف مرات عدة كأنه يخشى من مطاردة أحد له في الوقت الذي يسير في طريقه كغيره من الناس.

إن هؤلاء المرضى أو المصابين بالعصاب المتمثل بالوسواس القهري هم بكامل عقولهم وبرشد ظاهري عليهم، ومع ذلك يلاحظ من يلاحظ مظاهرا من فعل يزعجهم، ويلفت النظر إليهم متى عبّر عن نفسه أمام الآخرين، وحالة كتلك تشل حياته، وتربك عمله، وتؤذي نفسه لتصبح قضيته الأولى والأخيرة في حياته، فيحسّ نتيجة لذلك بألم نفسي، وغالبا ما يلوم نفسه كما لو كان هو الذي قرر ذلك.

والبيان القرآني في ذلك يؤكد على الشر في مثل هذه الحالة التي قد تعطل عبادته وعمله، فهو مضطرب متردد يعيش المخاوف والارتباط الواضح، فأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتعوذ من هذا الشر الذي يأتي في صورة خفية حيث قال سبحانه وتعالى (من شر الوسواس الخناس)؛ والخناس الرديء الذي لا يُرى، وإنما يبقى أثره والإحساس به، وبما يزعج به، فنرى المصاب يعاني من ضيق وقلق بإحساسه هذا، وما يُعطل فيه من قدرة على العمل والإنجاز.

الحمد لله أن سخر من وسائل العلاج الكثير، ومن ذلك معالجة الوسواس القهري بالتحليل النفسي والدواء، فيشفي المريض تماما، ويعود إلى حالته الطبيعية ليصير كل شيء ذكرى، فالحمد لله ثم له الحمد.

والله الموفق




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد