Al Jazirah NewsPaper Wednesday  10/06/2009 G Issue 13404
الاربعاء 17 جمادىالآخرة 1430   العدد  13404
لما هو آتٍ
الفرار منها..!
د. خيرية إبراهيم السقاف

 

يحدِّثنا تاريخ الخلفاء والصحابة رضي الله عنهم عن زهدهم في متعلّقات الدنيا، حتى أنهم بذلوا للدعوة وتعليم الناس وإقالة العثرات وإعداد الرسل وتجهيز الغزوات كل ما يملكون، فمنهم من حضرتْه الصلاة ولم يجد ما يستر به نفسه، ومنهم من قضى شهيداً ولم يطل ثوبه قامته، ويبشِّرهم الله على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم بالجنة وعوضها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت،.. ومنهم من لا يجد ما يحمل نفسه عليه سبقته دموعه حسرة وحزناً،.. فالزُّهد شيمة المتقين يعلمون أنّ الدنيا بنعيمها غرور، تُشغل المرء عن أمور آخرته، فهي داعية للمزيد، محرضة على التفكير فيه، باسطة بين عيني المقبل عليها فتونها وفنونها، تشغلهم عن رسالتهم، وتبعدهم عن نقاء منهلهم وموردهم، لذا كان الأتقياء يهربون منها، كلما جاءتهم من نافذة فرّوا عنها من أوسع الأبواب، صدقات جارية، وكفالات حانية، وقروضاً مثمرة، عملاً للبناء حيث لا تفنى دور ولا تختلط أمور، حيث الصدور مفرغة من الحسد، والقلوب متآلفة على التمتع بنتائج حصادها الذي وظفت له دنياها الفانية لعمار جنتها الخالدة، برحمة الله ومزيد عطائه، وكرم عوضه..

التاريخ الآن يطمس على هذه النماذج من المؤثرين على أنفسهم الزاهدين فيما عندهم، ليظهر لنا نماذج المتكالبين على الدنيا، الموسعين خطواتهم نحو سعة ما تحتهم وعلو ما فوقهم، كلهم يقولون: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، فأيّ النعم؟ أهي التي فرّ منها الأنبياء والرسل، وزهد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم تلك التي تعين على طاعة، وتساعد على هدى؟ وتبذل لتعليم، وتظهر في مواقف النصح والإرشاد والتعاون وحل الأزمات وإقالة العثرات وتكافل الأيدي وتوافق القلوب، وكسب العقول، واستمالة الجاهل لرافد النور، وإعانة الضال على تلمُّس الطريق؟.. نعمة المَخبر أم نعمة المظهر؟، نعمة العمل أم نعمة التظاهرة،.. نعمة القدرة على أبواب مشرعة لذي حاجة في كل لحظة؟.. أم نعمة الإيصاد، والترفع..؟

أوليست هي الدنيا التي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة المسلمين من إقبالها؟ فكيف وقد أقبل عليها الأكثر و فيهم من العلماء والمعلمين الذين يفترض أنهم ورثة الأنبياء بما في ذلك زهدهم وهجرهم للدنيا لا يحرصون منها إلاّ على ما يحييهم فيها لطاعته، ويخرجهم من سجنها على محجّته..؟..

ويشغلون أنفسهم فيها بما تحتاج إليه نفوس بضة وعقول غضة، وجنوب خاوية، وطموحات ذاوية، وألسنة جافية، وأقدام حافية، وأبنية مظلمة، وأبواب مغلقة، فيفتحونها على نور، ويشرعونها علماً ويوقدونها وعياً ويشحذونها همة، ويقيمونها على بصيرة..

فمن ذا الذي لا يؤكد أنّ معمعة الدنيا الراهنة جعجعة بلا طحين في ميزان الاحتكام للنجاة أم للخسارة ؟.. للدنيا الفانية أم للآخرة الباقية..؟ وتحديداً بين المسلمين..؟

إنها حقبة الدنيا وقد أقبلت فاللهم هبنا منها بقدر ما لا يلهينا عن طاعتك، ولا تجعلها أكبر همنا ولا مبلغ علمنا،, وأخرجنا منها مخرج صدق.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد