Al Jazirah NewsPaper Friday  19/06/2009 G Issue 13413
الجمعة 26 جمادىالآخرة 1430   العدد  13413
لماذا تجعل غيرك يفكر بالنيابة عنك؟!
عبدالله بن محمد السعوي

 

حينما نتمعن في الأطروحة القرآنية نجد أنها كثيراً ما تندد بالتركيبة العقلية التقليدية التي تعتمد في تفكيرها على غيرها؛ فلا تتحرك قناعاتها انطلاقاً من ذاتها، وإنما من محاكاة الغير والنسج على منواله والتحرك في موقع الانفعال, وهو نتيجة لافتقاره لسر الحركية لا يختزن في منطوياته أي حيوية للتحوير أو أي قابلية للتطوير؛ لأنه ينبعث على ضوء إملاءات ...

عادات تفكيرية مغرقة في الأبوية (إنا وجدنا آباءنا) على نحو لا يعبر إلا عن لون من البنى الثقافية التي تتسم بعمق الانحباس في بيئتها الضيقة, وحِدّة السطحية في نسيجها المفاهيمي؛ فهي غير مؤهلة لتفادي المعطيات اللاموضوعية الموروثة التي تلبستها وتلبست بها إلى حد التشبع الباعث على الجشاء. الكسل العقلي

يتجلى هنا في أعلى صوره؛ فالجنوح إلى التقليد هو الطابع البارز لذلك الوعي اللاحيوي الذي يشتغل على جملة أُطر معلوماتية مشوبة وإلى حد كبير بالمزالق المعرفية؛ ما أحالها إلى مصدر ثرّ لإمداد ذلك الوعي بالمعارف المشوهة؛ الأمر الذي آل إلى اعتقاله في زنزانة رؤيوية ضيقة حجّمت من فاعليته, بل جعلته يسير في المسار المعاكس للحقيقة المتوخاة. الثقافة الشفوية هي المنهل الجوهري الذي تمتح منه تلك الذهنية؛ فهي تتشربها تلقائياً؛ فتقبل وترفض وتسير في الخط المناهض للحقيقة دون مستند من دليل، وإنما اتكاء على التقليد العفوي المجرد. قزامة الإمكانات ومحدودية الاستقراء وتدني الرصيد القرائي رمت ذلك العقل بعيداً عن العيش ولو نسبياً في خضم الحراك الجدلي وحركية الحوار في إثبات هذا الفكر أو نفيه، وبالتالي أفقدته القدرة على التحرك أية حركة إيجابية في الاتجاه الصواب وأفقدته القدرة على تحريك الفكرة لمقارنتها بفكرة أخرى أو لمحاكمتها ومن ثم توليد فكرة مغايرة. العقلية التقليدية المقلدة مسكونة بالتعصب الحاد؛ فهي شديدة الارتباط بالخط الأبوي مفرطة في الانتماء لمحيطها العائلي أو القبلي أو الحزبي على نحو يجعلها تقبل ودون غربلة كل ما يصدر عن تلك الدوائر؛ فلا تنظر نظرة محايدة للمتبنيات الموروثة، ولا تقف حرة أمام دائرتها البيئية, ومن المعلوم أن التلبُّس بقدر عال من الحياد هو الذي يمكّن الفرد من امتحان الدقة الموضوعية للمعطيات الفكرية ويجعل حقيقتها تتكشف رويداً رويداً للعيان. إن النأي عن التعصب يتيح للفرد أن يدلف في إطار جدلي مع المغايرين بالتي هي أحسن، وفى ظل أجواء نفسية متفتحة تدفع بالفكر لمواجهة الفكر ولا تستجيش الذات لمحاربة الذات، فلا يلغي نفسه ولا يلغي مخالفه، وهذا ما نلمسه في ثنايا البيان القرآني إبان حثه على تقديم الحجة للآخرين من عناصر القوة في تفكيره وعناصر الضعف في الفكر المضاد وبالدفع بالتي هي أمثل. ولو تأملنا في القرآن الكريم وهو ذو طابع حواري فائق الروعة لألفيناه يتربع على القمة في آلية إدارته للحوار كما في قوله سبحانه {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، حيث يساوي المغاير الغارق في مستنقعات الكفر, بنفسه على الرغم من قناعته بالخطأ المتجسد في موقف ذلك المخالف. العقل الذي يكتفي بالاجترار عن التفكير دائماً يطغى عليه المنطق الانفعالي الذي يعيقه عن التقاط المفردات الواقعية بكل هدوء ووضوح ويجعله أسيراً لذهنية دخانية تحجب عنه بفعل كثافة دخانها المعاينة الدقيقة للأشياء. إن التماهي المفتقر إلى ما يمنطقه مع الجو البيئي ينحرف بصاحبه عن خطوط المنطقية في الفكر والممارسة فيقع في ظلم الخصوم؛ فهم دائماً على باطل حتى ولو كان الحق معهم، بينما الشريحة التي يَمتّ لها بصلة رحم فكرية فإنها دائماً على الحق حتى ولو كانت ممثلة للباطل في أبشع صوره!. وصفوة القول: صاحب العقلية الحية المتألقة هو ذلك الذي يحفز عقله على التفكير؛ فلا يدع سواه يفكر بالنيابة عنه؛ بل يتحرك في حياته بمسؤولية، ويسعى لفهم ما تثيره علامات الاستفهام في كافة المفردات المحيطة به.



Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد