Al Jazirah NewsPaper Sunday  21/06/2009 G Issue 13415
الأحد 28 جمادىالآخرة 1430   العدد  13415
الأصل في الأشياء.. الإباحة..؟
د.عبدالله مناع

 

عندما دعاني في شهر يوليو الماضي أخي الأستاذ (ممدوح سالم): المخرج السينمائي ومدير (مهرجان جدة للأفلام).. ل (المشاركة) في ندوة (المهرجان الثالث للأفلام السعودية).. تحت عنوان (الأفلام السعودية.. آفاق وتطلعات)، والتي سيديرها الزميل الأستاذ ناصر الصرامي،..

ويشارك فيها المخرج التلفزيوني الأستاذ خالد الطخيم.. كدت لا أصدق (الدعوة) بكل مفرداتها وإيحاءاتها، وسيل من الأسئلة يتدفق في داخلي..!؟

ألدينا صناعة (سينما).. حقاً، و(أفلام) ومخرجون وممثلون ومصورون ومنتجون، وموسيقيون يضعون لها موسيقاها التصويرية.. بل ونقيم لها مهرجاناً دولياً بلغ دورته (الثالثة)..؟ وكيف ومتى انشقت الأرض عن هؤلاء جميعاً.. في بلد (خاصم) السينما منذ مطلع ثمانينات القرن الميلادي الماضي، وقطع مشيمتها.. أو حبل حياتها السُّري.. حتى بدا كما لو أنها ماتت، بعد أن أُغلقت دور عرضها البدائية في (المقاعد) و(الدواوين) والأحواش وأسطح المنازل.. بل وأفتى صناع الفتاوى (التفصيل) بأن (الفيديو) بخصوصيته هو البديل الأكثر وقاراً واحتشاماً والملائم ل(خصوصيتنا)..!!

لكن، وبقدر عدم تصديقي ل(الدعوة).. كان حماسي لتلبيتها، لأذهب في تلك الليلة الصيفية القائظة.. إلى مقر (الندوة) بإحدى قاعات مبنى الغرفة التجارية الصناعية، وقد ارتسم في ذهني أن أتحدث - ارتجالاً - عن تجربة السينما في جدة منذ أن كنا نراها أطفالاً وصبية في المجالس والصوالين والمبيتات.. سعداء مبهورين بما نرى ونسمع، إلى أن يقطع التيار الكهربائي مندوب شركة (أبو زنادة) الأهلية بحجة أن تشغيل (مكنة) السينما يحرم الآخرين من حقهم في التيار الكهربائي، إلى أن أقام (الجمجوم) و(البسيوني) و(البادويلان) أحواشهم أو قاعات عروضهم.. إلى أن ذهبنا إلى السفارات والقنصليات وأنديتها فيما بعد.. إلى أن جلست في أواخر السبعينات ولأول مرة برفقة زوجتي لنشاهد معاً أحد الأفلام الأمريكية.. في أول دار سينمائية صيفية حقيقية تقام في مدينة جدة بفندق أبحر الجنوبية، ثم انطفأ بعدها كل شيء.. لأنهي مشاركتي قائلاً: بأن السينما (مدرسة) تُعلم، وتثقف وترتقي بمفاهيم الناس وأذواقهم، وتأخذهم في إطلالة حقيقية.. على العالم وما يجري فيه، فهي جامعة ثقافات.. ومحصلة لألوان الإبداع جميعها: ففيها النثر والشعر.. وفيها اللون والنغم.. وفيها البسمة والموعظة.. وفيها الانتصار والانكسار. لقد كنت أرى بعيني خيالي آنذاك مشاهد: فيلم (الرسالة) للعقاد.. و(الأرض) للشرقاوي.. و(رُدَّ قلبي) للسباعي.. و(بين القصرين) لمحفوظ، بل و(غزل البنات) للريحاني.. الذي قاده تعلقه ب(تلميذته) إلى الانكسار والدموع.

مع مغادرتي القاعة.. كان أخي ممدوح سالم يسلمني (بروشوراً) راقياً عن دورة المهرجان (الثالثة).. ومواقيت عروض أفلامها.. وعدد الأفلام المشاركة فيها.. والدول العربية والإسلامية والغربية صاحبة التاريخ السينمائي الضخم التي قدمت بأفلامها تقديراً ودعماً لمبادرة إقامة هذا المهرجان، دون أن تتعالى عليه.. وهي صاحبة الباع الطويل بمشاركاتها في مهرجانات السينما الدولية الشهيرة في (كان) و(برلين) و(البندقية) و(فيينا) و(القاهرة).

لقد كان عدد الدول المشاركة.. أحد عشرة دولة!! أما عدد الأفلام السعودية فقد بلغ ثلاثة وأربعين فيلماً..!! لأضع (البروشور) جانباً، وأتساءل مغتبطاً سعيداً: كيف استطاع هؤلاء (الشبان) - رغم الحصار المضروب على مواهبهم - أن يصنعوا هذا العدد الضخم من الأفلام.. حتى وإن كان لا يتعدى عرض بعضها الخمس أو العشر دقائق إلى العشرين أو الثلاثين دقيقة..!!

* * *

كأن المخرج السينمائي الفنان الأستاذ عبدالله المحيسن.. كان يرى استخفافي ب(قِصَر) مدد عرض هذه الأفلام, ليدعوني مع نخبة محدودة من الكتَّاب والإعلاميين لمشاهدة فيلمه الطويل: (ظلال الصمت).. في عرض خاص بمنزله في جدة.. استغرق ساعة وأربعين دقيقة، رأيت فيها - ولأول مرة - سينما سعودية حقيقية راقية.. لم أكن أتصور أن من المقدور تقديمها في ظل قحط البدايات وليس تواضعها.. إذ لم تكن لدينا أية أرضية يمكن أن تقام عليها صناعة (سينما) غير تلك (الخصومة) غير المبررة لها، وتلك (القطيعة) غير المفهومة معها، لكنني سرعان ما اكتشفت أن الأستاذ المحيسن.. هو مخرج سعودي ب (الأصل) والولادة والنشأة.. ولكنه عربي غربي بثقافته ودراسته السينمائية الواسعة والعريضة، وهي الظروف التي مكنته مجتمعة إلى جانب موهبته من تقديم ذلك الفيلم (المبهر): قصة وإخراجاً وتصويراً.. دون أن يحتاج إلى أي مشهد من مشاهد الابتذال والرخص ودغدغة العواطف، التي تلجأ إليها بعض الأفلام العربية.. أو تلك التي تترامى عليها القنوات الفضائية العربية: عرياً في الملابس.. وترخصاً في عرض أبدان الفتيات دونما داع غير استلاب عقول (الشبان) وقلوبهم.

لقد أدهشني بقدر ما أسعدني.. فيلم (ظلال الصمت)، فكتبت مشيداً به وب (مخرجه) الأستاذ عبدالله المحيسن، الذي غدا منذ تلك المشاهدة المشتركة.. لفيلمه، واحداً من أعز الأصدقاء. لكن دهشتي الكبرى ظلت على حالها.. منذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا، ف(الفيلم).. الذي عرض في عدد من المدن والعواصم الأوروبية، وحورب تجارياً.. فلم يعرض إلا في عدد قليل من المدن والعواصم العربية، ظل محروماً دون سبب أو علة من عرضه على أي من قنوات التلفزيون السعودي.. دون أن أكتشف سبباً واحداً لوجاهة ذلك الحرمان..؟!

* * *

ومضى قرابة عام.. لتشغلنا الصحافة بعده، بأنباء متناقضة: مرة عن قرب عرض فيلم (مناحي) للممثل فايز المالكي.. في مدينة الطائف، وأخرى.. عن عدم إمكانية عرضه، ثم انتهى الأمر إلى عرضه، لتتكرر (أرجوحة) عرض الفيلم وعدمه مرة أخرى في جدة.. ثم ينتهي الأمر ثانية إلى عرضه لعشرة أيام وسط إقبال جماهيري متزايد، جعل المسؤولين في (مركز أبرق الرغامة) يعيدون عرضه لثماني مرات في اليوم الواحد من أيام العرض!! فكان لهذا الإقبال المتلهف على مشاهدة فيلم كوميدي محلي الصناعة والإنتاج.. معنىً واحد، هو أن الناس يريدون (السينما).. ومشاهدة تلك الأفلام السعودية، التي كانوا يقرأون أخبارها في صحافتهم.. دون أن يتمكنوا من رؤيتها، فهي إما تعرض في (دبي) و(أبوظبي) و(المنامة).. أو في القاهرة وبيروت، وكلها مناطق بعيدة عن متناول السواد الأعظم من شباب المدارس والمعاهد والجامعات.. الذين يشكلون بملايينهم كتلة المشاهدين الكبرى لتلك الأفلام.

إلى أن تم الاتفاق بين الأمير الوليد بن طلال بن عبدالعزيز رئيس مجلس إدارة شركة (روتانا) المنتجة لفيلم (مناحي) و(مركز الملك فهد الثقافي) بالرياض.. على عرض الفيلم مساء يوم السبت 13- 6-1430ه الموافق للسادس من يونيه 2009م، حتى يراه شباب الرياض.. أسوة بشباب جدة والطائف، ورغم الإعلان المسبق عن موعد العرض الأول للفيلم.. الذي نشرته ثلاث صحف كبرى من بينها صحيفتنا هذه (الجزيرة) إلا أن (أرجوحة) عرض الفيلم من عدمه التي حدثت في المرتين السابقتين أطلت برأسها مجدداً.. بل ودخلت هذه المرة في مأزق يتجاوز مسألة الأخبار (المتناقضة) عن عرض الفيلم وعدمه.. إلى حضور مجموعة من الشباب إلى مقر مركز الملك فهد الثقافي، حيث اشتروا كميات كبيرة من التذاكر (لهدف واحد فقط.. هو إجهاض عرض الفيلم)، ثم أقاموا الصلاة في بهو المركز، ثم (بدأوا في تفعيل دورهم غير النظامي والفوضوي في إرعاب الجماهير وترويعهم والغلظة مع بعضهم في النصيحة، وتقريع المنتج، والشركة الراعية، وبطل الفيلم ونجومه)، ولكن (تم اقتيادهم بعد استنفاد كل الحلول السلمية على مشهد من الجميع حيث حاول رجال الأمن إقناعهم بالمغادرة ولكنهم أبوا إلا اقتحام المكان ومواصلة هدفهم الذي جاءوا من أجله).. كما وصف مراسل صحيفة (الجزيرة) في تغطيته ل(الخبر)، ونقل كل تفاصيله ببراعة وإتقان وموضوعية.. يهنّأ عليها.

مع هذا الشغب الاجتماعي، والفوضى المفتعلة.. عُرض الفيلم ونجح، وخرج الثلاثة آلاف مشاهد الذين احتشدوا في مسرح المركز الذي استخدم لعرض (الفيلم).. بهدوء، وفي سعادة غامرة، ليدخل يوم السبت السادس من يونيه ذاكرة الأجيال الشابة (65% من أبناء المملكة تقل أعمارهم عن ثلاثين عاماً) كعلامة حضارية فاصلة.. بين ما قبله وما بعده، وقد استرجعت جريدتنا (الجزيرة) في ختام نقلها لأخبار ليلة الافتتاح بذكاء ومهنية.. تصريحاً سابقاً للأمير الوليد بن طلال قال فيه: (إن دور السينما آتية لا محالة، وبدأناها مع أول فيلم سينما سعودي في أول سينما من (روتانا). بسبب الإقبال الواضح من الشباب السعودي على الترفيه والفنون بشكل عام، ما من شأنه إيجاد متنفس منظم يراعي العادات والتقاليد، وخصوصية المكان والثقافة)..!

* * *

حقيقة.. إننا أمام حادثة غير عادية.. فما الذي دفع هؤلاء الشباب لهذا التجمهر غير المجدي في مركز حضاري ثقافي تتولاه الدولة عبر وزارتها للثقافة والإعلام، وتشرف على كل شؤونه وكالتها للثقافة.. ووكيلها الشاب ابن الرياض ومجتمعها وثقافتها الدكتور عبدالعزيز السبيِّل..؟!

فالشركة المنتجة ل (الفيلم) لم تقتحم مركز الملك فهد الثقافي لعرض الفيلم.. ولكنها سلكت الدروب النظامية للحصول على الإذن بعرضه، وبموجبه طبعت تذاكرها، وأعلنت عن مواعيد عروضها.. وقدم الشباب بالمئات لمشاهدة الفيلم رغم تحفظي على أثمان التذاكر (100، 50، 30).. حتى ولو جير ذلك الدخل ل (جمعية مكافحة السرطان) في الرياض، أو جير في جدة لصالح إدارة (مهرجان جدة للأفلام)، فما الذي كان يمكن أن يجنيه ذلك التجمهر أو تلك الفوضى.؟

إنني أقول لهؤلاء الشباب المتحمسين والمعارضين ل (السينما) من حيث هي (سينما): إن (الأصل في الأشياء هو الإباحة).. ودعونا من فكرة الوقوف في شارع التاريخ ب (العرض).. حتى لا تجدوا أنفسكم تقفون وحدكم في ذات المكان الذي وقف فيه من قبل معارضو تعليم البنات، ومعارضو إنشاء التلفزيون.. بل ومحرمو (الراديو) و(الهاتف) على أيام الملك المؤسس - عبدالعزيز بن عبدالرحمن - طيب الله ثراه.

ف (الأمم) و(الشعوب) و(الأوطان) على بساط المعمورة كلها.. إنما تسير إلى الأمام، فلا تعكسوا السير.. وتأملوا بعقولكم وأفئدتكم: محاسن (الأشياء).. قبل الإطالة في تأمل مساوئها!!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد